فى ذلك اليوم البعيد من عام (١٩٥٥) طالت مداولات رئيس الوزراء الصينى «شواين لاى» ورئيس الوزراء البورمى «أونو» بأكثر مما كان مقررا.
الأول ـ أبرز وجوه الثورة الصينية فى العالم وكان مشغولا بالحدث الكبير الذى يوشك أن يبدأ بعد ساعات فى «باندونج».
والثانى ـ بطل قومى فى بلاده قادها إلى الاستقلال وكان معنيا بمستقبل جنوب شرق آسيا محاولا أن يساعد الجار الصينى على فك الحصار عنه ودمجه فى حركات التحرير الصاعدة.
استئذن «أونو» أن يغادر الاجتماع إلى مطار «رانجون» لاستقبال الرئيس المصرى.
كانت طائرة «جمال عبدالناصر» فى طريقها إلى الاجتماع التأسيسى لحركة عدم الانحياز و«بورما» محطة فى رحلة عمل شملت باكستان والهند والأخيرة شريك رئيسى مع مصر ويوجوسلافيا فى قيادة الحركة الناشئة.
باغت «شواين لاى» مضيفه: «أنا قادم معك».
بدا ذلك خروجا على الأعراف والقواعد فى العلاقات الدولية.
شرح «شواين لاى» الموقف على النحو التالى: «نحن فى الصين نعتبر أن علاقاتنا مع مصر التى يمثلها هذا الرئيس الشاب أبعد وأهم من وجود سفارات وتبادل سفراء».
كان الأستاذ «محمد حسنين هيكل» شاهدا على الواقعة التاريخية الفارقة وأول من لمح عبر نافذة الطائرة «شواين لاى» بجوار «أونو» عند مدرج المطار.
ربما لم يطلع الرئيس الصينى الحالى «شى جين بينج» على خلفيات المصافحة بين «عبدالناصر» و«شواين لاى» تحت الكاميرات فى «باندونج» التى وصفها قبل زيارته للقاهرة بمناسبة مرور ستين سنة على العلاقات بين البلدين بـ«التاريخية».
فى إقدام «عبدالناصر» حسابات غيرت التاريخ على نحو سمح للتنين الصينى أن يخرج إلى المسارح المفتوحة لاعبا رئيسيا يكرس قدراته لاكتساب صفة «القوة العظمى».
حتى لا ننسى كانت مصر أول دولة عربية وإفريقية تكسر الحصار على الصين.
هذه خطوة جسورة بكل حساب.
ولم تكن مصادفة تأميم قناة السويس فى يوليو (١٩٥٦) بعد شهرين بالضبط من الاعتراف الرسمى بالصين الشعبية التى أيدته بقوة.
فالسياسات تتسق مع فكرة استقلال القرار الوطنى.
بصياغات متقاربة كتبت المعانى نفسها على عهدى الرئيسين الأسبقين «حسنى مبارك» و«محمد مرسى».
الدنيا اختلفت الآن.
ثمة رهان صينى معلن على الرئيس «عبدالفتاح السيسى» غير أن الحقائق اختلفت عما كانت عليه قبل ستة عقود.
لا مصر دولة قائدة فى محيطها ولا الصين دولة محاصرة.
قفزت بكين إلى حيث تنازع بقوة على المقعد الاقتصادى الأول فى العالم وتراجعت مصر بفداحة إلى حيث تسعى بالكاد أن تتعافى.
فى التجربة الصينية برز رجلان من طراز استثنائى العلاقة بينهما معقدة للغاية.
أولهما ـ «ماو تسى تونج» وعنده قدرات الإلهام والحشد والتعبئة وصياغة الأفكار بصورة تجمع بين الايديولوجية والبراجماتية.
وثانيهما ـ «شواين لاى» وعنده مهارات بناة الدول، اطلع فى جامعة «السوربون» الفرنسية على العصر الجديد وحقائقه عند بدايات القرن العشرين، انتسب إلى الثورة وشارك فيها ولكن عينه ظلت معلقة على بناء الدولة، أسس مدرسة تنسب إليها المعجزة الاقتصادية الصينية.
أثناء الثورة الثقافية الصينية تعرض «شواين لاى» وتلاميذه إلى تجربة عصيبة.
اختصرت الثورة فى تعاليم مقتطعة من أفكار «ماو» ضمها «كتاب أحمر» تحول إلى كتاب مقدس جديد يشرف على الالتزام الحرفى به «لين بياو» الذى كان ينظر إليه كخليفة محتمل.
أقرب تلاميذ «شواين لاى» «دينج هسياو بنج» تعرض لحملة تشهير وصلت إلى تعمد الإهانة البالغة وتحقير شخصه.
الحكمة المتوارثة عند الصينى جعلته مستعدا، بطول نفس وقدرة على الصبر، أن ينتظر جثة عدوه طافية عند حافة النهر.
عندما تراجعت الصين عن شطط الثورة الثقاقية، على عهد «ماو» بعد مقتل «لين بياو» فى حادث طائرة غامض، تولت مدرسة «شواين لاى» ضخ أفكار جديدة لرفع معدلات النمو وجذب الاستثمارات واقتحام الصناعات التكنولوجية واختراق الأسواق البعيدة والوصول إلى منابع البترول فى أفريقيا بسياسة حاولت أن تزاوج بين ضرورات الانفتاح الاقتصادى والتزامات التوجه الاجتماعى عرفت باسم «اقتصاد السوق الاشتراكى».
انتقلت الصين إلى آفاق القوى العظمى دون أن تنتقم من الماضى الثورى، أو تتنكر لمعاركه، أو تنسى فضل «ماو» فى النقلة الكبرى التى وصلت إليها.
هذا عكس ما جرى فى مصر.
بعد رحيل «عبدالناصر» جرى الانقلاب على ثورة يوليو والتشهير بمعاركها الكبرى، بما فيها معركة فك الحصار عن الصين.
الامم الحية وحدها هى التى تتعلم من تجارب التاريخ، تنظر باحترام إلى تجارب الآخرين، تستلهمها دون ان تنقلها بتفاصيلها إلى دفاترها الخاصة.
هذا أول دروس «المعجزة الصينية».
فى مطلع السبعينيات كان الاقتصاد المصرى فى وضع أفضل من الاقتصادين الصينى والكورى الجنوبى وفى وضع مقارب للاقتصادين الماليزى والتايلاندى، بحسب دراسات اقتصادية موثوقة.
فى اعتقاد «مهاتير محمد»، الذى جاء إلى القاهرة فى الستينيات يستقصى أسباب نهضتها الاقتصادية، أن الفارق بين التجربتين الماليزية والمصرية أن الأولى لم تكن على حدود إسرائيل!
ما جرى فى مصر يتجاوز فكرة الانفتاح الاقتصادى.. فقد جرى اتباع نهج انفتاحى فى الصين بتوقيت متقارب من السبعينيات.
القضية تصفية المشروع الوطنى ذاته والانخراط فى التبعية الاقتصادية وإهدار الأموال والموارد والأصول العامة.
تنكرت مصر لقضايا عالمها العربى وقارتها الإفريقية وقطعت أواصر صداقاتها فى آسيا وأمريكا اللاتينية.
أخلت مواقعها تماما.
بعد وقت قصير نجحت إسرائيل فى مد خيوطها إلى الشرق حيث أصدقاؤنا التاريخيون فى الصين والهند.
أخذنا نقول إنهم نسوا مواقفنا فى نصرة قضاياهم دون أن نذكر أنفسنا أننا أول من خان قضايانا.
حيث تراكمت الخبرات والسياسات فى الصين جرفت هنا فى مصر.
يصعب تذكر اسم الرئيس الصينى، فالمؤسسة أقوى من الرئيس.
وهذا أحد أسباب الصعود الصينى الكبير.
عند رحيل «ماو» مرت الصين بفترة اضطراب قبل أن تحدد بوصلتها إلى المستقبل.
بعد صراع على السلطة مع ما سميت بـ«عصابة الأربعة» وبينهم أرملة «ماو» أمسك «دينج هسياو بنج» بمقاليد السلطة والقوة.
وكان «شواين لاى» قد رحل.
غير أنه لم يتول أى منصب رسمى، لا رئيس جمهورية ولا رئيس وزراء، مكتفيا برئاسته للجنة العسكرية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعى الصينى.
بقدر ما كان معنيا بالملف الاقتصادى وضرورات التقدم فيه بثبات فإنه رسخ فكرة المؤسسة بعده.
أخطر ما نعانيه فى مصر غياب التفكير المؤسسى.
غياب الأهداف الواضحة أزمة أخرى فادحة.
وفق نظرية الأمن القومى الصينى المعلنة فإن إحدى حلقاتها الرئيسية أن تصل قدراتها على المنافسة الاقتصادية إلى مناطق العالم المختلفة.
عندما يستعيد رئيسها مشهد المصافحة التاريخية التى جرت فى «باندونج» فهو يحاول الاستثمار فى التاريخ دون التوقف عنده.
وعندما يلح على «الشراكة الاستراتيجية» فهو يعرف ما يريد بينما نحن مازلنا نتصرف كأن الدول الكبرى مولات تجارية.
إذا ما أردنا أن ننفتح على حقائق العالم فلابد أن ندرك أن ما هو استراتيجى يتجاوز بكثير تلك الرؤية المبسطة.