البيروقراطية التنموية.. ظاهرةٌ يابانية - نبيل مرقس - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 7:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البيروقراطية التنموية.. ظاهرةٌ يابانية

نشر فى : الجمعة 20 يناير 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 21 يناير 2023 - 11:54 ص

«... فى حالة بعض الاقتصادات الناشئة التى تأخرت طويلًا عن اللحاق بركب الثورة الصناعية، بادر جهاز الدولة البيروقراطى بقيادة التوجه نحو التصنيع متخذًا لنفسه «وظيفةً تنموية». وتعطى الدولة التى تتبنى «عقلانية التخطيط» (كمكمل لـ«عقلانية السوق») أهميةً عظمى لصياغة «سياسةً تصنيع» تهتم بإنشاء هيكلٍ للصناعة المحلية، مع توفير كافة الوسائل والمحفزات والتيسيرات للقطاع الخاص الصناعى لتعظيم قدراته التنافسية على المستوى الدولى. ويشير وجود سياسة للتصنيع إلى «عقلانية التخطيط» التى تنتهجها الدولة الساعية إلى تحقيق هدف استراتيجى / تنموى محدد.

... وفى عصر الإمبراطور ميجى عام 1868، بدأ التحول فى الاقتصاد اليابانى الحديث نحو نموذج الاقتصاد التنموى الذى يتبنى «عقلانية التخطيط» دون التورط فى الالتزام الأيديولوجى بملكية الدولة لوسائل الإنتاج. وبعد عقدٍ ونصف من التجريب والإخفاق، تحولت اليابان بعيدًا عن نمط «رأسمالية الدولة» إلى نهج التعاون الوثيق بين الدولة والقطاع الخاص الصناعى، مع التركيز على تشجيع الاستثمارات الخاصة القادرة على التبنى السريع للتكنولوجيا الصناعية الحديثة والملتزمة بتحقيق الرؤية الاستراتيجية الشهيرة لعصر الإمبراطور ميجى التى تجمع بين حلم التنمية الاقتصادية وبناء القوة العسكرية فى آنٍ واحد».

تشالمرز جونسون، وزارة التجارة الدولية والصناعة والمعجزة اليابانية، ستانفورد، 1982.

• • •

يوضح تشالمرز جونسون أحد رواد دراسة وتحليل النموذج اليابانى للتنمية فى مقدمة كتابه المذكور، العلاقة بين تطور نموذج الدولة اليابانية التى تبنت عقلانية التخطيط ــ كَمُكَمِّلْ لعقلانية السوق ــ وبزوغ ظاهرة «البيروقراطية التنموية»: «فى الأزمنة الحديثة، ركزت اليابان على تبنى هدفٍ قائد لاقتصادها القومى قادرٍ على تحقيق التوافق المجتمعى العام. وقد تبلور هذا الهدف القومى فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أثناء عصر الإمبراطور ميجى فى صيغة (يابانٌ غنية / قوية عسكريًا). بينما تحول فى منتصف الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضى إلى صيغة (اليابان تتجاوز أوروبا وأمريكا). وفى هذا السياق، تركزت سلطة اتخاذ القرار الاقتصادى / التنموى اليابانى فى أيدى صفوة البيروقراطية الحاكمة فى وزارات المالية، التجارة الدولية والصناعة، الزراعة والغابات، التشييد، النقل، بالإضافة إلى هيئة التخطيط الاقتصادى». ويشير جونسون إلى أن عناصر هذه النخبة البيروقراطية المتميزة يتم اجتذابها من بين الأعلى موهبة من خريجى أفضل الجامعات اليابانية، ليحصلوا على أعلى المناصب وأكثرها احترامًا فى المجتمع اليابانى الحديث بعد اجتيازهم امتحانات القبول للدخول إلى صفوف النخبة البيروقراطية العليا. حيث أنهم يتحكمون فى أهم القرارات الاقتصادية فى الدولة اليابانية مثل بنود الموازنة القومية، بالإضافة إلى صياغة أهم التشريعات التى يمررها السياسيون فى البرلمان، كما يطرحون أهم المبادرات الإبداعية فى كافة جوانب السياسات العامة لليابان. وهم يحوزون بعد تقاعدهم ــ فيما بين الخمسين والخامسة والخمسين عامًا ــ على مناصب رفيعة فى القطاع الخاص، القطاع المصرفى، عالم السياسة، الهيئات العامة. ويرى جونسون أن عناصر هذه النخبة القوية / الموهوبة / عالية المكانة، هى الإفراز الطبيعى للتجربة التنموية اليابانية الحديثة. بينما يُسَمِّى كاتب هذا المقال هذه النخبة المبدعة التى ساهمت فى تحقيق المعجزة التنموية اليابانية بظاهرة «البيروقراطية التنموية» التى تجسد قدرة اليابان على «التأصيل الثقافى» للقيم والمؤسسات والمفاهيم التى استعارتها من الغرب فى سياق نهضتها الحديثة. ويشير جونسون إلى أن أسلاف هذه الطبقة الحديثة من «البيروقراطية التنموية» هم الساموراى، طبقة الأرستقراطية العسكرية فى العصر الإقطاعى. وخلال سنوات السلم الطويلة التى فرضتها على المجتمع اليابانى أسرة طوكوجاوا من أوائل القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، استطاع بعض أفراد هذه الطبقة المهددة بالزوال أن ينكبوا على دراسة لغات وعلوم الغرب ليتحولوا تدريجيًا من مهنة «الحرب» إلى مهنة «الخدمة العامة». وليسهموا بفعالية فى الحركة الفكرية والسياسية التى مهدت لخروج اليابان من عزلتها الطويلة، لتتحول فى عصر الإمبراطور ميجى المنفتح على العالم الخارجى إلى مجتمع رأسمالى صناعى حديث. وقد ورث أعضاء بيروقراطية اليابان التنموية من سمات محاربى الساموراى ــ إضافة إلى المكانة الاجتماعية الرفيعة ــ الرغبة فى التضحية بالذات من أجل «الخير العام» والقدرة على العمل لساعاتٍ طويلة دون ضجر أو شكوى، بما يمكن تسميته «طريق وأخلاقيات البيروقراطى» على نمط «طريق وأخلاقيات المحارب» الذى يجسد فى المخيلة اليابانية الصورة المثالية لنمط حياة وفلسفة المحارب الساموراى. ولهذه الأسباب التاريخية، يضع الجمهور العام فى اليابان ثقته فى نزاهة الموظف الحكومى أكثر من ثقته فى نزاهة السياسى أو رجل الأعمال. وقد رصدت إحدى الدراسات الإحصائية الموسعة فى الستينيات من القرن الماضى عدد 6 حالات من «الفساد الصغير» لكل 10 آلاف موظف حكومى فى اليابان، بينما تراجعت هذه النسبة إلى حالتين لكل 10 آلاف موظف فى منتصف الثمانينيات. ويشير مؤلفو كتاب Who Rules Japan؟ إلى تغير هذه الأوضاع «شبه المثالية» إلى الأسوأ مع بداية التسعينيات من القرن الماضى. 

• • •

وتمثل الإدارة الرشيدة لحصيلة اليابان من النقد الأجنبى، واحدة من إبداعات بيروقراطية اليابان التنموية. ففى سياق ارتفاع أسعار النفط فى السبعينيات من القرن الماضى، عادت اليابان لتعانى من أزمتها المزمنة المتمثلة فى النقص الحاد لحصيلتها من النقد الأجنبى بسبب الاختلال المستدام فى ميزان المدفوعات لصالح الخارج فى دولة تعانى من فقر الموارد الطبيعية. وفى نهاية الثمانينيات من القرن التاسع عشر، حرصت بيروقراطية اليابان التنموية على أن تقوم كافة الجهات الحكومية بإعداد موازنة خاصة لرصد حصيلة تعاملاتها فى النقد الأجنبى ــ جلبًا وإنفاقًا ــ بالتوازى مع موازنتها «الطبيعية» بالعملة المحلية. وقد تم إحياء هذه الممارسة البيروقراطية «المبدعة» بين عامى 1937 و1964 عام التحرير الكامل للتجارة الخارجية لليابان. ويقرر جونسون أنه فى مراحل النمو الاقتصادى المتسارع، فإن التحكم الرشيد فى حصيلة تعاملات النقد الأجنبى لكافة الجهات الحكومية يعنى القدرة على التحكم فى كل خيوط الاقتصاد القومى. وقد كانت وزارة التجارة الدولية والصناعة MITI ــ التى جمعت بين إدارتها للسياسة التصنيعية وإشرافها على التجارة الخارجية ــ هى الجهة المركزية المفوضة بذلك. لتصبح إدارتها الرشيدة لتوزيع هذه الحصيلة على الجهات الحكومية المختلفة هى الأداة المؤسسية لتفعيل «سياسة التصنيع» الحاكمة للاقتصاد اليابانى البازغ. كما تمثل آلية «التوجيه الإدارى» إبداعًا آخر من إبداعات بيروقراطية اليابان التنموية. حيث تم تخليقها لتفعيل محتوى سياسة التصنيع وتمريره بنعومة عبر الوزارات المختلفة ليصل إلى القطاع الخاص والبيئة الصناعية اليابانية فى شكل اقتراحات، طلبات، محفزات، تحذيرات، «جلسات تشاور دورية»، و«أوامر». وقد بدأت تاريخيًا فى صورة قانون صدر عام 1931 للتحكم فى الممارسات الصناعات الهامة فى اليابان، ثم تحولت عبر الزمن وعبر تراكم الممارسات اليابانية الناعمة شديدة التهذيب وعبر قدرة بيروقراطية اليابان التنموية على خلق وتأصيل التقاليد البيروقراطية المتجددة، ما أطلق عليه البعض «أخلاقيات» العلاقة المؤسسية الاستراتيجية بين الحكومة والقطاع الخاص فى اليابان وأطلق عليه البعض الآخر مسمى «المُرَكَّبْ الصناعى ــ البيروقراطى». وهى تمثل واحدًا من أعمدة ما يعرف فى دوائر الصناعة العالمية بـ«اليابان إنكوربوريتيد»، إشارة إلى الدولة الصناعية رقم 3 على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وينسب جونسون هذا الإبداع المؤسسى إلى واحدٍ من رموز MITI، وهو شيجيرو ساهاشى الحاصل على درجة جامعية فى القانون من جامعة طوكيو عام 1937 (برغم الصعوبات المالية التى مرت بها أسرته المتواضعة). وقد التحق ساهاشى بعد تخرجه بوزارة التجارة والصناعة اليابانية، ثم تم تجنيده فى الجيش اليابانى وشارك فى الحرب الصينية اليابانية الثانية. وبعد عودته عام 1941، يصبح رئيسًا للتنظيم النقابى فى وزارة التجارة والصناعة بالإضافة إلى ترقيته ليصبح رئيس قسم العمل فى مكتب الشئون العامة بالوزارة. وبعد اندماج وزارة التجارة والصناعة مع مكتب التجارة الخارجية ليشكلا معًا كيان MITI عام 1949، استمر ساهاشى فى صعوده المتسارع ليتولى رئاسة مكتب المنشآت الاقتصادية ثم رئاسة هيئة براءات الاختراع وليصبح عام 1964 نائبًا لوزير MITI. فيصفه المراقبون ــ فيما بعد ــ بأنه قائد الازدهار الاقتصادى اليابانى بعد الحرب العالمية الثانية، وأهم قيادات «القومية الصناعية» فى اليابان، و«البيروقراطى الاستثنائى فى عصره»، و«المحارب الساموراى» المدافع عن مصالح الناس. وبرغم أن MITI تبدو للوهلة الأولى كبيروقراطية اقتصادية يديرها الاقتصاديون، فإنها فى الواقع لم تكن كذلك. فحتى نهاية السبعينيات من القرن الماضى لم يكن هناك داخل صفوف نخبة MITI الحاكمة سوى اثنين من حاملى درجات الدكتوراة فى علم الاقتصاد الغربى، وكان الباقون من حاملى الدرجات الجامعية فى الاقتصاد والإدارة العامة والقانون من الجامعات اليابانية. ويطرح ناوهيرو أمايا نائب وزير MITI فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى صاحب أطروحة «نهج جديد لسياسة التصنيع» (لتيسير الانتقال من الصناعة الثقيلة التقليدية إلى الاهتمام بقطاع الخدمات والصناعات الاستهلاكية وصناعة الإلكترونيات وإحداث ثورة تكنولوجية فى قطاعات الصحة والتعليم و«الصناعات المعرفية») والذى يؤمن بكنوز المعجزة الاقتصادية اليابانية الثلاث: نظام التوظيف داخل المنشأة مدى الحياة / نظام الأجر المرتبط بالعمر / والتنظيم النقابى المرتيط عضويًا بالمنشأة الاقتصادية (وهو ما يسميها معًا جوهر «العائلة الاقتصادية اليابانية»). يطرح أمايا فلسفته التنموية المتحررة من ضوابط علم الاقتصاد الأكاديمى، فيقارن بين توجهات وأفكار كل من الباحث الأكاديمى والممارس السياسى / التنموى داخل بيروقراطية الدولة اليابانية. ويلاحظ أن العديد من التوجهات والأفكار التى تبدو «معادية للمنطق» من وجهة نظر الباحث الأكاديمى هى حيوية وأساسية ــ فى سياق الواقع العملى ــ بحسب رؤية الممارس السياسى / التنموى. فعلى سبيل المثال، يدرك الممارس السياسى / التنموى الأهمية القصوى لمفهوم «الشعور القومى» كمحرك أساسى من محركات الاقتصاد التنموى ودافع هام لمشاركة المواطنين فى تحقيق الرؤية الاقتصادية / التنموية للدولة. وذلك على عكس الباحث الأكاديمى المستغرق داخل فرضيات «الإطار النظرى» Paradigm الذى يعمل على إثبات مصداقيته فى سياق الواقع المعيش. ويدعو أمايا إلى إبداع «علم اقتصاد يابانى» مغاير لعلم الاقتصاد العام الذى يختلف عن الفيزياء والكيمياء فى ارتباطه بدراسة السلوك الاقتصادى المتغير للإنسان. بحيث يتضمن «قواعد صرف ونحو» ذات طابعٍ قومى يتم استنباطها من الواقع الاقتصادى بسماته المحلية، مثل توصيف دور القطاع غير الرسمى و«غير المرئى» فى تشغيل الاقتصاد القومى كما يتبدى فى الحالة المصرية (راجع مقال د. إبراهيم عوض «توجه اقتصادى جديد» فى جريدة الشروق يوم 8 يناير 2023).

نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات