هل أمريكا دولة متحضرة؟ - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل أمريكا دولة متحضرة؟

نشر فى : الجمعة 20 مايو 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 20 مايو 2016 - 9:35 م
لا شك أن أمريكا تقف على قمة العالم كأقوى دولة وقد انفردت بهذه القمة بعد مرحلة الحرب الباردة، حيث كان ينازعها القمة الاتحاد السوفيتى. وبسقوط الاتحاد السوفيتى عام 1989 أصبحت أمريكا القائد الأوحد، لكن هناك مشكلة حقيقية فى مدى تحضر هذه الدولة العظمى من ناحية السياسة والاقتصاد والقوة العسكرية. فالعمر الحضارى لها يزيد عن خمسمائة عام بقليل، بينما دول أوروبا وعلى رأسها إنجلترا وفرنسا وألمانيا والدول الإسكندنافية يمتد عمرها إلى آلاف السنين لذلك تجد أوروبا أكثر رقيا وثقافة عن أمريكا. وسوف أذكر بعض الأمثلة الخاصة بهذا الشأن.

المثل الأول هو كيف اختار شعب لندن «صادق خان» عمدة لمدينتهم، وبهذا أصبح أول مسلم يترأس بلدية عاصمة دولة عضو فى الاتحاد الأوروبى. هنا علينا أن نعلم أن العمدة الجديد بريطانى قبل أن يكون مسلما، وعمدة لندن غير معنى بقضايا العالم العربى والإسلامى إلا بقدر تأثيرها فى مدينته، وهو يتصرف فى ميزانية تقدر بـ20 بليون دولار. انتخاب مثل هذا الرجل يوضح مدى تحضر الشعب البريطانى فهم يفرقون بين أبو بكر البغدادى وصادق خان، ويرون أن صادق خان هو أكثر انتماء من خصمه الذى ينتمى لحزب المحافظين؛ الرجل الأبيض الثرى الذى خاض أمامه الانتخابات وبنى دعايته على أن صادق مسلم، وحيث إن مليونى ونصف ناخب انتخبوا «صادق» فهذا يعنى أنهم شعب متحضر حقيقة.

هنا أتذكر الغزو الأمريكى للعراق وكيف لم يستطع الجنود الأمريكيون التعامل مع الشعب العراقى فى بغداد ووقعت اعتداءات عليهم، بينما الموصل التى كانت من نصيب الجيش البريطانى فقد تعاملوا مع سكانها بحضارة وتفهم وخبرة فلم تحدث أى حادثة اعتداء ضدهم؛ إنه الشعب العريق صاحب التاريخ الطويل مع شعوب الشرق الأوسط. وأتذكر أيضا كيف خرج شعب قنا رافضا تعيين محافظ مسيحى عينته الدولة لا لشىء إلا لأنه مسيحى، وكذلك ثورة طالبات مدرسة ثانوية فى بنى سويف على تعيين مديرة مسيحية، وقد انحنت الدولة وألغت التعيين هذا رغم الحضارة المصرية القديمة والممتدة. الآن الثقافات الأقل عمرا والأكثر مالا اخترقت حضارتنا إلى حين لكنها من المستحيل أن تنال من العراقة المصرية والتى من المحتم عودتها بقوة، فهى وإن ضعفت لكنها مازالت تجرى فى العروق. إن الفيصل هنا هى درجة تحضر الإنسان.

***

موقف كاشف آخر هو الموقف من اللاجئين السوريين. لقد كان للأوروبيين رغم أنهم أكثر الدول تضررا من الأعمال الإرهابية موقفا إنسانيا حضاريا، لقد قبلت مستشارة ألمانيا مليون لاجئ، وعندما تحرش بعض اللاجئين بالنساء ليلة رأس السنة قامت بترحيل كل من ثبت تورطه. ورحبت فرنسا والسويد باللاجئين لأنهم يراهنون على الحضارة الأوروبية، وكيف أن هؤلاء اللاجئين سوف يتعلمون الحضارة وأولادهم سيصبحون مواطنين أوروبيين وأن الثقافة الأوروبية سوف تحتويهم.

أما فى الجانب الأمريكى فرأينا كيف أن ترامب بنى كل دعايته على كراهيته ورفضه للاجئين رغم المأساة التى يعيشونها دون ذنب منهم، وكيف أنه اكتسح بهذه الدعاية معظم الولايات رغم أن الحزب الجمهورى كان يرفض ترشيحه، لكنه فى النهاية خضع للإرادة الشعبية وقام بترشيحه. وهنا نقف أمام ثقافة ومدى تحضر وإنسانية هذا الشعب.

هناك أمر آخر يوضح الفارق بين أمريكا والدول الأوروبية وهو الموقف من الدين أو بمعنى أصح التفسير الدينى؛ لقد حسمت أوروبا أمرها وتبنت العلمانية بمعنى فصل السياسة «الدولة» عن المؤسسة الدينية «الكنيسة» ولم يعد للكنيسة أى دور سياسى فى جميع بلدان أوروبا. بينما فى أمريكا ورغم أنها دولة علمانية إلا أن التوجه الدينى فيها وسطوة المؤسسات الكنسية أمر يلفت النظر؛ فمثلا عندما قرر جورج بوش غزو العراق كان يصلى إلى الله بجوار مستشاره الدينى «بيلى جراهام» أشهر الوعاظ. فكان يعتبر أن غزوه للعراق إرادة إلهية وتعجيل بمجىء المسيح ثانية؛ لأنه يؤمن بحركة الصهيونية المسيحية والتى تنادى بأنه «لابد أن يعود جميع اليهود إلى أرض الموعد فلسطين، ثم تحدث حرب عالمية «هرمجدون» وفيها يحارب العالم إسرائيل «شعب الرب» وعندما يبدو فى الأفق هزيمة إسرائيل يتدخل الله من خلال الطبيعة «زلازل وبروق ورعود» فينهزم العالم أمام إسرائيل، وهنا يأتى المسيح ويملك على الأرض ملكا حرفيا لمدة ألف عام»؛ هذه الأحداث تعتبر تفسيرا حرفيا غير منطقى لبعض آيات الكتاب المقدس. ومع ذلك هناك كثيرون فى أمريكا يؤمنون بها ويشجعون من يؤمن بها، بينما معظم المسيحين فى أوروبا والعالم العربى وآسيا يرفضون هذا التفسير تماما، ويفسرون ما جاء فى الإنجيل عن هذا الأمر تفسيرا روحيا بمعنى أن ملك الله على البشر ملك روحى.

***

ومثل آخر عندما فكرت الكنيسة الإنجيلية بمصر فى رسامة المرأة قسيسة «رجل دين»، وقد سبق وقامت برسامتها فى أقرب رتبة للقسوسية وهى رتبة عضو مجلس إدارة «شيخ»، وتقوم بالوعظ وممارسة معظم ما يقوم به القسيس. وفى الحوارات التى دارت أخيرا بهذا الشأن، قال الرافضون إن هناك كنائس فى أمريكا ترفض تماما دور المرأة فى الكنيسة؛ بمعنى إذا كانت أمريكا الأكثر تحضرا بها كنائس ترفض تعيين المرأة فى المناصب الكنسية العليا كيف نحن ننادى بذلك؟ وكانوا يظنون بذلك أنهم يأتون بأسباب لا تقبل النقاش وهم لا يعلمون أن هناك كنائس فى أمريكا أقل تحضرا من كنائس أوروبا ومصر، والسبب هو فى العراقة والموقف من المرأة. فالإمبراطورية البريطانية وهى فى قمة مجدها حكمتها امرأة «الملكة إليزابيث» فى القرن التاسع عشر، والحضارة المصرية فى قمتها حكمتها نساء حتشبسوت ونفرتيتى وكليوباترا، بينما أمريكا لم تحكمها امرأة فى تاريخها وهناك من يرفض انتخاب هيلارى لأنها امرأة.

إن الذى أسس الكنيسة المصلحة فى مصر كان اسكتلنديا متحضرا. وعندما ننظر إلى أوروبا نجد أن المرأة فى ألمانيا وصلت إلى رئاسة الكنيسة. وقد كنت فى وفد كنسى يزور «محمد مرسى» رئيس الجمهورية حينئذ وعندما قدمنا له امرأة على أنها «رئيسة الكنيسة» أخذ وقتا ليمتص الصدمة، وهنا تذكرت كلمات الشيخ محمد عبده، عندما قام بزيارة باريس فى مطلع القرن الماضى وقال مقولته الشهيرة «رأيت فى باريس مسلمين بلا إسلام ورأيت فى مصر إسلاما بلا مسلمين»، والمعنى هنا واضح جدا أن باريس التى فصلت بين المؤسسة الدينية والمجتمع صار الشعب فيها يطبق أخلاقيات الدين من نظافة الشوارع ونظام المرور وتقديم الواحد للآخر على نفسه والاجتهاد فى العلوم والرقى الإنسانى والتعامل المتحضر والصدق مع النفس والآخرين... إلخ، دون أن يمارس الدين بطقوس المؤسسة الدينية.

وكان هذا أيضا ما سمعته بأذنى من فريق العمل الذى قام برسم الصور المسيئة للرسول فى الدنمارك ففى زيارة لهم مع بهاء الدين حسن وصلاح عيسى بدعوة من الخارجية الدنماركية؛ جلسنا إلى رئيس تحرير المجلة والفنان الرسام وكان السؤال لماذا تفعلون هذا؟ لقد أقمتم الدنيا ولم تقعدوها. وقالوا «إننا فعلنا ذلك للحفاظ على العلمانية التى بذل فيها آباؤنا وأجدادنا دماؤهم ليفصلوا المؤسسة الدينية (الكنيسة) عن الدولة وقد نجحوا فى ذلك، والشعب الدنماركى والسويدى والنرويجى يطبقون مبادئ الدين بدون مؤسسة دينية أو رجال دين يتسلطون عليهم، وأنتم ترون ذلك باحتكاككم بنا وبكل الشعوب الأوروبية، وقد أحسسنا أن الخطر الإسلامى يريد أن يعيدنا إلى سلطة الدين ثانية، فالناس هنا مرعوبة من عودة القرون الوسطى الأوروبية والتى يعيشها الشرق الأوسط اليوم».

***

هنا وجب علينا أن نفكر ونتساءل عن من الأكثر تحضرا فى عالم اليوم؟ ألا تروا معى أن الفيصل فى التحضر ليس المال أو التكنولوجيا لكن الفيصل هو الإنسان ثم الإنسان.
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات