الحقيقة والدماء - أهداف سويف - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 5:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحقيقة والدماء

نشر فى : الأربعاء 21 ديسمبر 2011 - 9:10 ص | آخر تحديث : الأربعاء 21 ديسمبر 2011 - 9:10 ص

الدماء تجرى فى أرض وسط البلد. فى الرابعة من صباح كل يوم تنقض القوات المسلحة المصرية الباسلة على المواطنين المصريين المدنيين فى وسط العاصمة المصرية، فتقتل منهم من تقتل، وتصيب من تصيب، وتختطف من تختطف، ثم تتراجع وراء أحد الجدران العازلة التى بنتها فى الشوارع المؤدية إلى ميدان العاصمة الرئيسى، تستريح وتشحن لتعاود الهجوم.

 

قبل هذا اشتبك الشباب فى مشاحنات معارك مع قوى مبهمة لمدة أسبوع أو أكثر ليفتح الطرق والميدان أمام الموظفين والسيارات وأصحاب الأعمال والمارة. وحين نجح، جاءت القوات المسلحة وأغلقته؛ جاءت وفضَّت ــ بعنف شديد ــ اعتصام مجلس الوزراء، ففتحت شارع الدواوين، وشارع الحكومة، وفى نفس الوقت أغلقت ميدان التحرير، وميدان الشعب.

 

هذه إحدى الغرائب التى حدثت فى وسط البلد فى الأسبوع الماضى. وهناك أخرى:

 

تحرشت القوات المسلحة بـ«عبودى»، أحد شباب الاعتصام، واختطفته، ثم أعادته للاعتصام فى حالة ضمنت دفع زملائه لمحاولة الأخذ بالثأر فى التو واللحظة (//www.youtube.com/watch?v=MChw2kqlRG8&list=UUXEMoXN_OzK_rScQKP8hYFg&index=12&feature=plcp ) فبدأوا فى رشق ــ ليس الجنود لأنهم لا يرون الجنود ــ بل أحواش المبانى الحكومية التى يتخذ منها الجنود ثكنات.

 

على مدار الأسبوع رأينا القوات المسلحة تسحب الشباب إلى حالة حرب صغيرة: تستفزهم بالحركات والشتائم من أسطح المبانى ومن وراء الأسوار، تقذفهم بالحجارة والطوب والأثاث وأطقم الصينى ولوحات الزينة وألواح الزجاج وقنابل المولوتوف والشماريخ. هذا فضلا عن أسلحتها التقليدية من خرطوش ومطاطى ورصاص حى وغاز.

 

ثم رأينا حملات الهجوم على الميدان والشوارع تضرب الشباب بشراسة، ورأينا جرجرة البنات إلى محابس مختلفة، ورأيناهن يخرجن مضروبات ومكهربات، وواحدة منهن محفور فى رأسها حرف الـ«T».

 

ورأينا حرقا ومحاولات حرق المبانى العامة، ومنها المبانى ذات المعنى التراثى مثل المجمع العلمى، وكانت القوات تمطر الشباب الذى يحاول إنقاذ الكتب بوابل من الطوب. كما أمسك الشباب بمجموعة من الـ«ناس» معاهم قنابل مولوتوف ومتجهين لمهاجمة المتحف المصرى.

 

ثم جاء المشهد الذى لقطته الكاميرات ولف العالم فى لمح البصر: الشابة التى تُفصل عن الشاب الصحفى الذى تتحدث معه، ويُضرب هو ونرى جندىا يقفز عليه بالبيادة أكثر من مرة، وتسحل هى وتُعَرَّى وفى لحظة نرى بيادة عسكرية تنزل بثقل لابسها على صدرها (انظر ). رأينا أيضا سيدة كبيرة السن تحاول الذود عن الشابة فيضربها الجنود (انظر//www.youtube.com/verify_controversy?next_url=/watch%3Fv%3D4iboFV-yeTE ).

 

الجنود؟ جنود القوات المسلحة المصرية؟ يفعلون هذا؟ ليه؟ مفهمينهم إيه؟ قايلين لهم إيه؟ هل كان يتصور أحد أن شابا مصريا يضرب شابة بجزمته فى صدرها؟ يلطش واحدة ست فى عمر أمه ويركلها؟ //www.youtube.com/watch?v=mKEmez6P-aQ&feature=g-user-u&context=G268fd0aUCGXQYbcTJ33aDw9Je3fccHbtvTky9AkEDBl7TgADFTgc بيعملوها. بيعملوها فى التحرير كل يوم.

 

كنا على حق، إذا، حين شعرنا إنهم يعبثون ــ ليس فقط باقتصادنا، وأمننا، وصحتنا، ونيلنا، وأرضنا، بل يفسدون فى نفوسنا وعقولنا وقلوبنا. وكانت استعادة النفس هى أجمل تحولاتنا فى الميدان فى يناير وفبراير.

 

ولكن للأسف ــ شبابنا، ألوفات.. شبابنا مجَنَّد أسير عندهم، يرهبونه ويُسَخِّرُونه ويغسلون مخه، والآن نرى ناتج جهودهم فى شوارعنا. نرى ما لم نكن نتخيل فى أحلك أوقاتنا أنه ممكن: لم نكن نتصور، حين رضينا وائتمناهم على صحوتنا، على شعلة المحبة والتفاؤل التى نجح شبابنا الثائر فى إيقاظها فينا، لم نكن نتصور مقدار ابتعادهم عنّا. هم ليسوا منا.

 

فى السابعة من صباح الإثنين فى ميدان التحرير، خط، خيط، نهير من الدماء: خمسون مترا ركضها رفاق اللحظة وهم يحملون الشاب الجريح، محمد مصطفى، طالب هندسة عين شمس، الذى ضربه عسكر المجلس بالنار والذى يرقد أثناء كتابتى هذه فى مستشفى الهلال. خط، خيط، نهير من الدماء، أحاطها الشباب على طولها بقطع الطوب والحجر لترسم لنا ذلك الطريق. ثم صوَّروها.

 

لم يشكلوا لجنة ويتناقشوا ويختلفوا ويتفقوا على خطة. بل كان الفعل هو المجمِّع؛ كل واحد نَوَّر فى قلبه الفعل الذى سيقوم به، ولأن إحساسهم صادق، ولأن مشاعرهم مشحذة، ولأنهم مبدعون، جاء الفعل صادقا بسيطا مهيبا فى رمزيته، واسعا فى رسالته: الدم غالى، كل نقطة فيه لها ثمن (انظر http://www.youtube.com/watch?v=L0qJpSEMjAE&list=UUXEMoXN_OzK_rScQKP8hYFg&index=1&feature=plcp).

 

اسأل العسكر: ماذا يعنى هذا الشريط الخام المهتز غير الممنتج الذى يصطحبك فى رحلة الدم، رحلة محمد مصطفى ورفاقه ودمائه ــ الذى يجعلك أنت المشاهد طرفا فيها لمدة تسع وتسعين ثانية؟

 

لن يعرفوا. لأن الدم عندهم مالوش ثمن. لماذا تصور دم مسكوب فى الشارع؟ هم يعرفوا فقط أن عليهم أن يمنعوا التصوير. داروا فى الميدان يأخذون الكاميرات: من وكالات الأنباء، والتليفزيونات، والشباب. لماذا يخافون الكاميرات هكذا؟ يخافونها لأنها تقدم الحقيقة التى يحاولون وأدها، الحقيقة التى يكتبها شبابنا بدمائهم.

 

يا مجلس: الحقيقة لا تُقتل، الحقيقة المسطرة بالدم لا تموت. أقصى ما عندكم أن تحبسوها فى زنزانة مظلمة، وعندها تفاجأون بكَمّ النور المتدفق منها، من كل نقطة دم، يضئ ليس فقط الزنزانة بل العالم.

التعليقات