فى غمرة الفرح الذى عم المصريين بقيام ثورة 25 يناير، ثم بنجاحها فى تنحية رأس النظام، كان من الطبيعى أن تسود موجة من التفاؤل الشديد بمستقبل باهر لمصر.
كانت أسباب التفاؤل قوية ومقنعة. فالرئيس المخلوع كان يرأس نظاما فاسدا ضج الناس منه، وعانوا منه الأمرين لمدة تقرب من ثلاثين عاما. والذى نجح فى تنحيته الشعب المصرى نفسه. نعم كان للجيش دور مهم جدا، ولكن الجيش لم يبدأ الحركة، كما حدث فى 1952، بل استجاب لانتفاضة شعبية. والثورة تمت دون عنف أو تخريب، بل كانت سلمية على نحو بهر العالم كله، وعبر تعبيرا ناصعا عن طبيعة الشخصية المصرية. والمشاركون فى الثورة لم يقتصروا على طبقة اجتماعية واحدة هى الأكثر تعرضا للظلم، بل ضمت كل الطبقات، وساهم فيها النساء كما ساهم الرجال، والأقباط إلى جانب المسلمين، وأظهرت كل طائفة من هؤلاء مشاعر طيبة للغاية نحو الطوائف الأخرى، مما دعم بلا شك الشعور بالتفاؤل بالمستقبل.
قامت الثورة المصرية عقب ثورة ناجحة فى تونس، وتلتها ثورات فى بلاد أخرى بشرت أيضا بنجاح مماثل، فقوت أسباب الفرح فى دولة دواعى الفرح فى الدول الأخرى. وتكلم العالم عن «الربيع العربى» بعد شتاء كئيب طويل. بل وعبّرت دوائر رسمية كثيرة، فى دول أجنبية من بينها قوى عظمى، عن تأييدها لما حدث فى مصر، وعرضت علينا المعونات، وانضمت المؤسستان الماليتان العتيدتان (صندوق النقد والبنك الدولى) إلى فريق المؤيدين، وعرضتا بدورهما تقديم دعم سخى للاقتصاد المصرى.
نعم، سقط شهداء أعزاء، واهتز الاقتصاد المصرى اهتزازا عنيفا، وارتكبت أخطاء فى اختيار بعض المسئولين الجدد، صحح بعضها ولم يصحح البعض الآخر، ولكن هذا لم ينجح فى القضاء على روح التفاؤل، حتى مرت خمسة أشهر على خلع الرئيس، فإذا بالسماء تتلبد بالغيوم، ويبدأ الناس فى التساؤل عما إذا كانوا على صواب فى هذا التفاؤل.
كان من المفهوم تماما، فى غمرة الفرح الشديد أن يغفل الناس عن الحقيقة الآنية، وهى أن من الطبيعى أن يكون لثورة كهذه، فى دولة كمصر، أعداء مهمون وأقوياء، وأنهم لا يمكن أن يتركوا الأمور تجرى على النحو الذى يتمناه المصريون دون أن يضعوا العقبات فى الطريق. نعم، كان من المفهوم أن يغفل الناس عن ذلك، ولكنى أصارح القارئ بأنى ظللت أستغرب (ومازلت أستغرب حتى الآن) ندرة ما كتب أو قيل فى محاولة تحديد من هم بالضبط المعادون للثورة، وتحليل دوافعهم ومواقفهم المحتملة، بل لاحظنا انخراط الجميع فى تعبيرات حماسية، عن التأييد أو الشجب، وكأن جسامة الأحداث تعفينا من مسئولية التفكير والتحليل.
استغربت أيضا بشدة (ومازلت أستغرب) أن يستمر الكلام عما يحدث فى مصر وكأن مصر تعيش وحدها فى جزيرة منعزلة عن العالم، وكأن ما يحدث فيها يتحدد فقط نتيجة صراع داخلى بحت بين أنصار نظام جديد، وأنصار (أو فلول) النظام القديم، بينما ينظر العالم إلينا متفرجا ومنتظرا النتيجة.
●●●
فى الأيام الأولى للثورة، وقبل تنحى حسنى مبارك عن الحكم، صدرت تصريحات مدهشة من الرئيس الأمريكى أوباما، ومن وزيرة خارجيته، تتضمن كلها تأييدا صريحا للثورة وحثا للرئيس المصرى على سرعة الاستجابة لمطابها، لدرجة أن الرئيس الأمريكى استخدم تعبيرا «فورا» لوصف ما يجب على حسنى مبارك عمله. وعندما جاء سفير أمريكى سابق إلى مصر، معروف ببعض الصلات القوية بينه وبين حسنى مبارك، وأعلن بعد مقابلته له أنه يرى أن يستمر فى رئاسة الجمهورية، أسرعت وزيرة الخارجية الأمريكية بالقول بأن هذا السفير السابق لا يعبر إلا عن رأيه الخاص وليس عن رأى الحكومة الأمريكية.
استمر هذا الموقف الأمريكى المؤيد للثورة حتى بعد نجاحها، وكان هذا يمثل تطورا مدهشا فى موقف الولايات المتحدة من مصر، وكان من الواجب أن يُقبل المحللون على محاولة فهمه وتفسيره، وهو ما لم أر له أثرا فيما قرأت من تعليقات مصرية أو أجنبية. لا يمكن تفسير هذا الإحجام عن تفسير التغير فى الموقف الأمريكى بعدم أهميته. فغنى عن البيان مدى أهمية ما يحدث فى مصر للمنطقة العربية كلها، وللمشروع الصهيونى، وكذلك أهمية ما إذا كانت الولايات المتحدة تؤيده أو تعارضه وأنا أميل إلى تفسير هذا الإحجام فى وسائل الإعلام المصرية، بتأجج العواطف إلى درجة النفور من أى محاولة للتحيل، وأما وسائل الإعلام الأجنبية فقد تعودت منها لفترة طويلة، أنها لا تميل إلى إبراز دور القوى الكبرى فى التطورات التى تحدث فى دول العالم الثالث، والعوامل التى تحكم هذه التطورات، بل تميل إلى المبالغة فى إرجاع ما يحدث إلى عوامل داخلية بحتة، حتى تظل المسئولية ملقاة دائما على عاتق هذه الدول التى نادرا ما تملك الإرادة الحرة لفعل ما تريد، ومن ثم يمكن للقوى الكبرى أن تتملص من المسئولية.
قرأت بعض التعليقات المصرية والأجنبية التى تعبر عن اعتقاد أصحابها بأن الإدارة الأمريكية لابد أن حسنى مبارك ظل حليفا مخلصا لها طوال فترة حكمه.
وتجاهلت هذه التعليقات ما يدل على عكس ذلك بالضبط، من التصريحات الرسمية الأمريكية، صحيح أن التصريحات الرسمية كثيرا ما تعبر عن عكس الحقيقة، ولكن التصريحات الأمريكية التى أشرت إليها لم تكن تدل على ذلك، بسبب ما تضمنته من إصرار على تأييد الثورة، وتكرار هذا التأييد، مما لم تكن الإدارة الأمريكية فى حاجة إليه لو كانت الحقيقة عكس ذلك.
والحقيقة أنى لا أشعر بأى استغراب لهذا التطور الذى طرأ على الموقف الأمريكى. فليست هذه أول مرة (ولن تكون بالطبع آخر مرة) تتخلى فيها الولايات المتحدة (أو أى دولة كبرى) عن حليف مخلص لها بمجرد أن تقرر أنها لم تعد فى حاجة إلى خدماته، أو أن ضرره أصبح أكبر من نفعه. ولسنا بحاجة إلى التذكير بتنكر الولايات المتحدة لشاه إيران، ولرئيس الفلبين، بل وحتى لصدام حسين بعد أن أدوا جميعا خدمات جليلة للسياسة الأمريكية، كل فى منطقته إن تفسير مثل هذا التحول فى السياسة الأمريكية أسهل بالطبع بعد وقوعه من التنبؤ به قبل ذلك. ولكنى أجد بعض الأسباب القوية لتفسير هذا التحول الأمريكى إزاء نظام حسنى مبارك.
●●●
الفساد عنصر مهم بالطبع فى أى نظام يقوم بخدمة دولة كبرى، إذ لا تستطيع دولة كبرى أن تعتمد على سياسيين وطنيين لتنفيذ سياسات ليست فى صالح وطنهم. لابد أن تعتمد على سياسيين يقدمون مصالحهم الخاصة على مصالح الوطن، وهذا هو الفساد بعينه. ولكن الفساد أيضا قد يصل إلى حد قد تعتبره الدولة الكبرى أكبر ضررا بها مما يمكن تحمله. إن رأس المال الدولى يهمه جدا توافر درجة معينة من الفساد لتحقيق أغراضه، خاصة فى المراحل الأولى للتحول من نظام وطنى إلى نظام غير وطنى، ولكن المستثمر الأجنبى يهمه أيضا أن يتوافر حد أدنى من احترام القانون، ومن الاستقرار، مما قد تطيح به درجة عالية أكثر من اللازم من الفساد. ربما كان من الأهم من ذلك أن ظروف العالم تتغير، وما قد يخدم مصالح الدولة الكبرى فى مرحلة قد لا يخدمها فى مرحلة أخرى. انظر مثلا إلى موقف الولايات المتحدة من نظام الملك فاروق فى مصر فى الأربعينيات من القرن الماضى، وكيف تغير بعد ذلك. كان بقاء نظام كهذا فى مصر خلال سنوات الحرب العالمية الثانية (39 ــ 1945) أمرا مرغوبا فيه، ولم يكن يتصور لا من الأمريكيين ولا من الإنجليز المحتلين لمصر فى ذلك الوقت أن يتخلوا عن تأييد النظام الملكى فى ظل حرب عالمية طاحنة، تحمل أخطارا كبيرة، من بينها خطر الاحتلال الألمانى لمصر. لم يعد الأمر كذلك بعد انتهاء الحرب. لا عجب أن توالت الانقلابات العسكرية فى العالم الثالث بعد انتهائها، وأن حظى الكثير منها (ومن بينها انقلاب 1952 فى مصر، الذى تحول إلى ثورة) بتأييد الأمريكيين.
من الممكن جدا أن يرى المرء فيما بدأ يحدث فى العالم من تغييرات فى السنوات الأخيرة ما يستدعى تغييرا فى الموقف الأمريكى إزاء نظام من نوع نظام حسنى مبارك، لقد بدأ القرن الواحد والعشرون والولايات المتحدة فى حالة مختلفة تماما عما كانت عليه قبل نصف قرن. لقد ظننا لفترة قصيرة، عقب سقوط الاتحاد السوفييتى والنظم الموالية له، فى مطلع التسعينيات، أننا مقبلون على فترة طويلة من السيطرة الأمريكية المنفردة على العالم، وكثر الكلام عن نظام القطب الواحد (أى القطب الأمريكى) الذى حل محل نظام تتحكم فيه قوتان عظيمتان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى. ولكن سرعان ما تبين أن الولايات المتحدة، رغم تفوقها العسكرى على أية قوة أخرى فى العالم، أضعف اقتصاديا من أن تنفرد بحكم العالم. ومع اشتداد المنافسة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى من ناحية، وبين الولايات المتحدة وقوى جديدة فى شرق آسيا، تنمو بسرعة مذهلة، خاصة الصين، من ناحية أخرى، تبين لنا أننا على أعتاب عصر جديد يقوم على أقطاب متعددة بدلا من عصر القطب الواحد، وأن كلا من هذه الأقطاب لابد أن يعمل على تثبيت قدميه فى منطقة من العالم على حساب الأقطاب الأخرى، استعدادا لعهد جديد من المنافسة. يستبعد جدا أن تصل هذه المنافسة إلى درجة شن الحروب، (أو على الأقل الحروب الظاهرة والمعلنة)، كما كان الحال حتى منتصف القرن العشرين، ولكنها منافسة اقتصادية حادة قد لا تقل شراسة عن الاشتباك العسكرى. قد تتخذ المنافسة فى العهد الجديد شكل صراع بين شركات دولية أكثر مما تتخذ شكل منافسة بين الدول، ولكن الدول، بجيوشها، ودبلوماسييها وأجهزة مخابراتها، لابد أن تعبأ لخدمة شركاتها، مثلما كانت تفعل دائما من قبل عندما كانت الشركات مملوكة ملكية خالصة لدولة واحدة.
فى الاستعداد لهذه المواجهة الجديدة مع أقطاب جدد، ومع أقطاب قديمة تستعيد عنفوانها، كان لابد للولايات المتحدة أن تعيد ترتيب علاقاتها مع حلفائها (أو أتباعها) القدامى، ومن ذلك بالطبع النظم العربية، من منظور العالم الجديد لابد أن منظر النظم العربية، من المحيط إلى الخليج، بدا باليا ومتهالكا لدرجة تدعو إلى الرثاء وربما السخرية أيضا. هل يمكن أن تواجه أمريكا منافسيها فى العصر الجديد بحلفاء من نوع مبارك أو زين العابدين أو عبدالله صالح؟
ربما كان هؤلاء يصلحون فى عهد المنافسة مع السوفييت، عندما كان الفوز يتوقف على نشاط من نوع ما تمارسه أجهزة المخابرات، كاستخدام الأعمال الإرهابية مثلا للتخويف والتهديد، ولكن فى عصر يعتمد أساسا على المنافسة الاقتصادية، يحتاج الأمر إلى كفاءة اقتصادية أعلى، وفساد أقل، ودرجة أكبر من احترام القانون. من هذا المنظور يبدو كثير من النظم العربية وكأنها تنتمى إلى عصر عتيق أكل الدهر عليه وشرب، ومن ثم فمن المفيد، بل قد يكون من الواجب إراحتها.
●●●
ممن المكن أن نجد لما يحدث الآن سابقة فيما حدث فى المنطقة العربية قبل ستين عاما، أى فى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. كانت الولايات المتحدة تخطط أيضا لعصر جديد عقب الانهيار الاقتصادى للقوتين الاستعماريتين العتيدتين بريطانيا وفرنسا، على الرغم من خروجهما منتصرتين فى الحرب العالمية الثانية. وكانت الولايات المتحدة تخطط لوراثة ممتلكاتهما. لم يكن من الممكن لأمريكا أن تعتمد على سياسيين تقليديين، من نوع نورى السعيد فى العراق أو مصطفى النحاس فى مصر، أو كليل شمعون فى لبنان.
بل بدا أسلوب الانقلاب العسكرى أكثر ملاءمة. وفى منتصف الخمسينيات صدر من الرئيس الأمريكى تصريح شهير أعلن فيه ما سمى بـ«نظرية الفراغ» وكان يقصد أنه بعد أن انتهى عصر الاستعمار التقليدى فى منطقة الشرق الأوسط ظهر «فراغ» لابد من ملئه، واقترح أيزنهاور أن يكون ملء هذا الفراغ بتكوين تحالفات جديدة بين الحكومات الجديدة فى الشرق الأوسط وبين الولايات المتحدة. دعنا نتذكر كيف احتج جمال عبدالناصر على نظرية الفراغ هذه، أو ما سمى أحيانا بـ«مبدأ أيزنهاور» وقدم القومية العربية كبديل للتحالفات مع الغرب، وكيف حقق العرب بذلك انتصارات مهمة حتى تغلبت عليهم الولايات المتحدة وإسرائيل باعتداء 1967.
تُرى كيف تتصور الإدارة الأمريكية اليوم، كيفية «ملء الفراغ» الذى نشأ عن سقوط نظام مبارك وبعض الأنظمة العربية الأخرى؟ وإلى أى مدى يتفق أو يختلف هذا التصور الأمريكى مع آمالنا نحن؟ بل ما هى هذه الآمال بالضبط فى عالم يختلف اختلافا جذريا عما اعتدنا عليه؟ وما الذى يمكن أن نفعله من إجل تحقيق هذه الآمال حتى لو احتلفت تصورات دول خارجية كبرى؟ ألم يحن الوقت لمحاولة الإجابة عن هذه الاسئلة، أن سنظل لعدة سنوات أخرى نشجب أو نؤيد دون تفكير حتى فى الأسباب التى أدت إلى تلك التصرفات أو المواقف التى نشجبها أو نؤيدها؟