يعنى إيه تراث؟ - مىّ الإبراشى - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يعنى إيه تراث؟

نشر فى : الثلاثاء 22 أغسطس 2017 - 8:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 22 أغسطس 2017 - 8:50 م
قامت UNــHabitat التابعة للأمم المتحدة بإطلاق ما يسمى بالأجندة الحضرية العالمية الجديدة New Urban Agenda فى مدينة كيتو بالإكوادور فى شهر أكتوبر 2016 وذلك فى مؤتمر موحش فى ضخامته، ضم أكثر من ثلاثين ألف مشارك من 167 دولة. والهدف من هذه الاتفاقية (غير الملزمة للموقعين عليها) هو تحديد التوجه الدولى للتعامل مع المدن والتى باتت تضم أكثر من نصف سكان العالم لأول مرة فى تاريخ البشرية. وتأتى هذه الاتفاقية فى أعقاب الاتفاقية الأكثر شمولا (والملزمة للدول الموقعة عليها) التى تسمى بأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة Sustainable Development Goals، والتى تم التوقيع عليها فى يناير 2016، وتهدف إلى تحسين حياة الناس والحد من الفقر وعدم المساواة، ونخص منها بالذكر هدف التنمية المستدامة 11 والذى ينص على «جعل المستوطنات البشرية شاملة وآمنة ومرنة ومستدامة».
قُتلت هاتان الاتفاقيتان بحثا فى الدوائر المهتمة بالتنمية والعمران، وما يعنينى هنا هو ظهور صوت نقدى غير متوقع، وهو صوت المجتمع المهتم بالتراث المعروف بكونه مجتمعا محافظا بل وقد يراه البعض رجعيا غير متقبل للتغيير حيث إنه مولع بالتاريخ بموجب اهتمامه بالحفاظ على التراث. 
وقد ظهرت هذه الأصوات الناقدة فى دوائر التراث منتقدة الاتفاقيتين والحوار الدائر حولهما بدعوى أنهما تغفلان عنصرا شديد الأهمية فى المدينة هو عنصر الثقافة. ولا يُقصد بالثقافة هنا النشاطات الثقافية ــ أى أن تحوى المدينة مسارح أو مكتبات. المقصود هو ثقافة المدينة أى: ما هو الإحساس المكانى والطابع الحياتى الذى يجعل القاهرة قاهرة وليست بيروت، وبيروت بيروت وليست مارسيليا، ومارسيليا مارسيليا وليست نيويورك؟ أهو نسيج الشوارع أم طبيعة الطعام أو شكل المبانى أم لغة وعادات السكان أم شكل الملابس أم نوع الموسيقى؟ ولا ينفى خبراء التراث أن الإجابة عن هذا السؤال الهام إجابة شديدة المعاصرة لأنها تتناول حال المدينة الآن لكنهم يرون أن هذه المظاهر المعاصرة لها جذور واضحة فى تاريخ وتراث المدينة وأن لتجاهل هذه الجذور تبعات وخيمة. 
إذن، فالتحدى الأكبر هو فك اللغز المتمثل فى هذا السؤال: كيف تستطيع المدينة أن تتغير وتتحول وتخلق ثقافة معاصرة يتم توريثها للأجيال القادمة لتصبح تراثا يفخرون به دون أن تفقد الخيط الواصل بينها وبين تاريخها وثقافتها فى الحقب الماضية؟ هل يمكن أن نبنى ناطحات سحاب بالقاهرة مع الحفاظ على البيوت التقليدية ذات الأحواش والمشربيات؟ هل لنا أن نتناول البانكيك على الإفطار والملوخية على الغذاء؟ هل يمكننا اعتبار موسيقى المهرجانات أكثر ارتباطا بتراثنا وهويتنا عن موسيقى حماقي؟ نعم ونعم ونعم – من وجهة نظرى المتواضعة.
والسؤال الأهم: هل هذه الأسئلة هى أسئلة يحق لمن يعمل فى مجال التراث أن يسألها؟ نعم وألف نعم لأنها تتماشى مع التوجه الحالى بالتعامل مع التراث كثقافة ومورد. أى أن التراث ليس فقط المبانى المسجلة أثرا من قبل وزارة الآثار بل هو شكل الشوارع والحارات والنشاطات التقليدية بها مثل القهاوى، والأسواق التى تفيض بكراسيها ومعروضاتها لتحتل الشارع، والبيوت التى تجود بنقط الماء المتساقطة من الغسيل على المارة. التراث ليس فقط ما يعرض بالمتاحف من مشغولات بل هو اللعب الخشبية رديئة الصنع التى كانت تباع بالموالد وكادت تندثر. 
***
هذا المفهوم للتراث يشمل التراث الملموس (المبانى والمنتجات الحرفية ونسيج الشارع) وغير الملموس (الموسيقى والقصص والعادات والتقاليد) والتراث الطبيعى أيضا. وقد يعرف الكثير أن محمية مثل وادى الحيتان أو الغابة المتحجرة تعتبر تراثا طبيعيا. لكن ما لا يعرفونه أن الشجر الضخم العجوز الذى يظلل شارع الأشجار بشبرا أو شارع صلاح سالم يعتبر تراثا أيضا.
وما إن نفقد شجر شارعى الأشجار وصلاح سالم (وقد فقدناه بالفعل) لا نفقد فقط شكلا جماليا بل نفقد أيضا موردا مجتمعيا: نفقد مصدرا للأكسجين كان يحد من ضرر التلوث ونفقد ظلا كان يحمينا من شمس الصيف ويحسن من جودة الحياة داخل المدينة ويجعلها أكثر ترحيبا بالمشاة (ما يسميه خبراء المدن walkability). وهذا ما نعنيه بقولنا إن التراث يعتبر موردا مجتمعيا. فلا نستفيد من كونه موردا اقتصاديا جاذبا للسياحة فحسب بل نستفيد منه محليا كمورد روحى (نصلى فيه أو نستمتع بجماله) ومورد اجتماعى (نثقف فيه أولادنا ونكسبهم من خلاله فهما أكثر نضجا لهويتهم) ومورد سياسى (يضيف إلى قوتنا الناعمة كمهد للحضارة وموطن لمدن يعتز بها العالم كتراث بشرى عالمى مثل الإسكندرية والقاهرة).
وما صلة هذا بأهداف التنمية المستدامة والأجندة الحضرية العالمية؟ الإجابة العامة هى أنه لا سبيل لتنمية المدن وتحسين جودة الحياة بها دون التعامل مع خصوصيتها الثقافية كسمة يجب الحفاظ عليها ومورد يستفاد به. أما الإجابة فيما يخص مصر، فهى من وجهة نظرى إجابة عن كيفية توجيه موارد الدولة واستثماراتها فى التنمية العمرانية وذلك لتحقيق أعلى عائد وأسرعه تأثيرا. فما هو التوجه الأجدى اقتصاديا والأكثر كفاءة؟ أن نبذل المال والجهد فى بناء مسخ من دبى لن يتعدى أبدا كونه نسخة درجة ثانية من مدينة ما زالت تسعى جاهدة إلى أن تشكل لنفسها ثقافة مميزة وتخلق لها تاريخا؟ أم نستثمر فى القاهرة أو الإسكندرية «كعلامة مميزة» لا مثيل لها اكتسبت شهرتها من تاريخ عريق لنا أن نضيف إليه فصلا جديدا معاصرا؟ أليس من الأجدى اقتصاديا أن نبنى على رأس المال ونستفيد منه بدلا من أن نرميه ونقترض رأس مال جديد؟ 
***
لقد اتفق خبراء العمران على أن التوجه الأفضل للتنمية العمرانية هو تكثيف العمران مع تحسين الخدمات. أى أن أزيد من كثافة المبانى والسكان على الرقعة الحالية للمدينة، ولا أتمدد أفقيا، مع توفير خدمات مثل المواصلات العامة والمرافق والمناطق الخضراء. ويرون هذا أجدى اقتصاديا وأفضل للبيئة. أى من الأجدى لنا أن نفرض الضرائب على العشرة ملايين وحدة سكنية (نعم، عشرة ملايين، تَسَع نصف سكان مصر!) الشاغرة لإجبار ملاكها على تأجيرها أو بيعها بدلا من أن نبنى شققا جديدة. ومن الأفضل أن نحسن من المواصلات العامة ونشجع الناس على المشى وركوب العجل من أن ننشئ مستوطنات جديدة لا سبيل للوصول إليها إلا بالسيارات التى تبث عوادم تصيبنا وأولادنا بالسرطان. ومن الأفضل أن نستثمر فى صيانة المبانى التاريخية ونعيد صياغتها كمبانى عامة ونشجع الملاك على استغلالها فى المشاريع الاستثمارية أو حتى السكن فيها بأمان بدلا من أن نبنى المزيد من المولات والمستوطنات السكنية وبدلا من أن نستبدل مدينة القاهرة بعاصمة إدارية جديدة. 
وماذا عن التراث؟ التراث هو القيمة المضافة التى نصر على تجاهلها ونمتنع عن استغلالها الاستغلال الأمثل. هو فرصة غير مستغلة كمصدر إلهام للفن والمعمار والصناعة. ولا أعنى هنا التقليد الأعمى وإعادة إنتاج لثقافات الماضى بل التناول المعاصر لهذه الثقافات والتعامل النقدى مع ما تمثله لنا اليوم من قيمة والتعامل معها كأول سلمة فى رحلة الوصول إلى منتج عمرانى معاصر يمثلنا نحن كمصريين ونفخر بتوريثه للأجيال القادمة كحلقة فى تاريخ حضارى طويل ومجيد. 
ويعنى إيه تراث؟ إحنا التراث.
مىّ الإبراشى رئيس مجلس إدارة جمعية الفكر العمرانى ومنسق مبادرة الاثر لنا
التعليقات