محمد أبو الغيط «قطعا» مر من هنا - هشام أصلان - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 3:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محمد أبو الغيط «قطعا» مر من هنا

نشر فى : الجمعة 22 ديسمبر 2023 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 22 ديسمبر 2023 - 9:29 م
قبل أيام، وتزامنًا مع ذكرى رحيله الأولى، أعلنت إسراء شهاب، زوجة الصديق والكاتب محمد أبو الغيط، إطلاق موقعه الإلكترونى، وهو مشروع كان يحلم بأن يتمه ليجمع فيه أعماله من كتابات وتحقيقات صحفية ومشاركات «بودكاست» وما إلى ذلك. وكان مدهشًا أن ينتبه الواحد إلى أنه مر عام على رحيله.
تذكرت يوم كنت أقرأ آخر ما كتب محمد أبو الغيط على صفحته فى فيسبوك، وراودنى شعور قارئ على مشارف نهاية كتاب، وأننى أقرأ آخر سطور الحكاية، التى كان قد بدأ تدوينها منذ أعلن عن طبيعة وضعه الصحى بتوالى تطوراته يومًا بعد يوم. وتمنيت بيأس ألا يعنى انتهاء الكتابة نهاية بطلها الحقيقى، بينما كانت مشاعر الحزن والقلق تتوارى وراء دهشتى من مستوى قبض محمد على قلب حالته الفنية وهو فى حالة صحية يزداد تدهورها فتمنحه، للمفارقة، عالم أوسع للسرد. الأمر فوق قدرة العقل على الاستيعاب. ذلك التلقى الذى أقف عنده منذ بدأ كتابة حكايته، وسؤال أبدى حول كيف يحدث هذا؟ أية روح تلك وأية قوة؟ الأهم أية جدوى تدفعه لما يفعل؟ تلك عينان ترى شيئًا لا نراه بأعيننا المجردة.
بعد نشره ذلك المشهد الختامى بيومين تقريبًا، وكان قد رأى بعينيه ردود الأفعال، وتلقى معنا خبر اقتراب صدور كتابه «أنا قادم أيها الضوء» عن دار الشروق، عرفنا أنه دخل الغيبوبة، ليرحل خلال ساعات، مُتممًا سردية إنسانية وأدبية مدهشة، خطفت أبصار الآلاف لشهور. انتهت، لكنها قابلة للقراءة مرات ومرات، شأن كل السرديات التى حركت مخيلة البشر وأدهشتهم ووضعت أسئلتهم الكبرى.
يصعب التعبير بدقة عما فعله أبو الغيط. هو كما الظواهر النادرة، ترك أثرًا فادحًا يحتار الجميع فى فهم معطياته. لكن المؤكد أن الأسطورة لم تُنسج فقط لأن هناك رجلًا جميلًا يحارب المرض ببسالة، المؤكد أن هذا وحده ليس ما أوقف آلاف المتابعين على أطراف أصابعهم يقرأون ويراقبون مشدوهين.
منذ بدأ محمد التدوين والنشر حول أجواء مرضه، أحسست أن المسألة ليست كونه يشارك أصدقاءه مأساة، ذلك أنه لم يكن يكتبها كمأساة. هذا كاتب قرر أن يترك للعالم حكاية رائعة وعظيمة، حكاية مطبوعة بالحزن، لكن الحزن ليس تيمتها الأساسية، تيمتها تلخصها عبارة قصيرة جاءت ضمن مقطع من كتابه، عنونه بـ«لماذا أكتب؟»، ونشرته دار الشروق فى مواقع التواصل عقب رحيله: «هذه صيحتى: محمد أبو الغيط مرَّ من هنا». أبدًا، لم تمر وحسب أيها الاستثنائى.
كيف يمكن لإنسان وهو فى أكثر لحظاته ضعفًا وألمًا وشعورًا بالنهاية، أن يكون قادرًا على صنع الونس لآلاف البشر، بكل ما يعنيه الونس من قيمة إنسانية؟ كيف تحول صوته لمشترك لامع بين هؤلاء الآلاف برغم اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم؟ فعلها محمد أبو الغيط واضعًا إيانا أمام جُملة من أسئلة الفن والإنسانية وقوة الأمل وحدود القدرة البشرية.
عرفت محمد أبو الغيط قبل حوالى عشر سنوات، صحفيًا لامعًا، يُعبّر مع قليل من أبناء جيله عن شكل جديد للصحافة كان قد بدأ يظهر فى الأفق، فى لحظة ذهبية خادعة قبل أن تنتكس أحوال المهنة. لحظة ذهبية حيث براح المواقع الإلكترونية يتحمل تجارب خارج السياق المعتاد، ومقالات الرأى ليست مقصورة على شيوخ المهنة عند نواصى الصحف الورقية، شباب فى عشرينيات أعمارهم يتمتعون بمواهب كبيرة مخلوطة بأفكار خارج القوالب، وكتابة جديدة تشبه القراء الجدد ووعيهم الشارد.
وفى تلك اللحظة الذهبية نفسها، أتاحت لى جريدة الشروق، بجانب عملى محررًا فى صفحتها الثقافية، مكانًا لكتابة زاوية أسبوعية بموقعها الإلكترونى، وكان أبو الغيط هو من يساعد فى تنسيق أمر المقالات، ومع كونه يصغرنى ببضع سنوات، لطالما كانت ملاحظاته غاية فى الذكاء والفائدة.
انتكست الأحوال، وسافر أبو الغيط مع أسرته الصغيرة إلى لندن، وجاءت أخباره من هناك دائمًا مفرحة ومبهرة. مجموعة من الإنجازات الصحفية اللافتة، ونجاح كبير لتحقيقاته الاستقصائية، وعناوين تحدث عنها المهتمون فى العالم، خصوصًا مع مشاركاته فى تحقيقات صحفية دولية دوى نجاحها، فضلًا عن عدد من الجوائز المرموقة.
عشر سنوات هى نحو ثلث عمره، وضع عبرها بصمة نادرة قياسًا بأحوال الحقل الصحفى العربى، فيما لم ينغص أوضاعه أبدًا سوى قلق روحه بعيدًا عن أرض الوطن، بينما جاءت إحدى علامات الدهشة حين تهاوت كل الحوائل أمام وقوف موهبته منتصبة، ليجبر الجميع على إعلان تقديره فقط بالعمل العظيم، وليس بأى شىء آخر، ولم تمر أيامه الأخيرة إلا وقد تم تكريمه فى الدورة الأولى لمنتدى الإعلام المصرى، ويقف جميع الحضور إجلالًا يصفقون للصحفى العظيم.
هكذا رأى محمد تكريمه فى مصر، ورأى غلاف كتابه، وردود أفعال غير مسبوقة للقراءة، واطمأن إلى أن الجميع سيقول: «محمد أبو الغيط مر من هنا»، ثم أغمض عينيه، تاركًا هذا الأثر الباقى.
هشام أصلان كاتب وصحفى
التعليقات