بمناسبة علاء عبدالخالق «2» - هشام أصلان - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 9:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بمناسبة علاء عبدالخالق «2»

نشر فى : السبت 29 يوليه 2023 - 9:50 ص | آخر تحديث : السبت 29 يوليه 2023 - 9:50 ص

النشأة فى بيت يهتم بالموسيقى الكلاسيك، وتربية الأذن على سيمفونيات من قبيل «كارمينا بورانا» و«شهرزاد»، نشأة لم تحُل بينى وبين موسيقى وأغانى الجيل. لم تضعنى فى مكان المتأففين مما أطلقوا عليه «الأغنية الهابطة»، المصطلح الذى انتشر فى أعقاب النجاح المدوى لـ«لولاكى». كانت «لولاكى» سُلّمة بين جيلين.

الأول ينهى مراهقته داخلا إلى سنوات الشباب، مشحونا بأغان لمطربين مثل عمر فتحى وعماد عبدالحليم ومدحت صالح، والثانى ينهى طفولته بادئا مراهقته على اجتياح «الأغنية الهابطة». يكبرنى خالى بخمسة عشر عاما، أناديه باسمه دونا عن باقى الأخوال، وأتوهم صداقة متكافئة ترضى رغبة فى الشعور بأننى كبرت. سنتان أو ثلاث تفصل بينى وبين التدخين والمجاهرة به. الذهاب لبيت جدى، حيث يقيم خالى، يعنى الجلوس معه فى غرفته وسماع الأغانى التى يرددها زملاء المدرسة والشباب فى وسائل المواصلات والخارجة من أجهزة الكاسيت المحمولة على أكتاف المراهقين فى تمشيتهم على الشواطئ الشعبية. فى تلك الزيارة نظرت إلى المنضدة التى عليها جهاز الكاسيت، وطلبت منه تشغيل «لولاكى»، كنت متأكدا أنه اشترى الشريط دون أن أسأل. مدخل الأغنية بلا موسيقى، كتمت ضحكتى كأن الأمر عادى، وعقدت حاجبىّ متصنعا التركيز والاستغراق فى الكلمات، ولمحت أمى تبتسم.

عندما أصدر على حميدة شريطه الثانى، كان خالى كبر ثلاث أو أربع سنوات، وارتبط رسميا بإحداهن، سألته: ـ إيه رأيك فى شريط على حميدة الجديد؟ وصدمتنى الإجابة حين قال: ما بسمعش تفاهات! 2 لسنوات، تصورت أن الاسطوانة التى تدور فى بيتنا لتلك الموسيقى الأجنبية الشهيرة هى تسجيل صوتى لموسيقى إعلان «أولد سبايس» ويعرضه التلفزيون بين حين وآخر، ذلك العطر الرجالى الجميل الذى يضعه أبى بعد الحلاقة. احتلّت، ولا تزال، مساحة كبير من القلب. أسمعها فأتذكر الرائحة فورا. ولكن أى شركة إعلانات تلك التى تستطيع المجىء بمن يؤلف هذه المقطوعة؟ أتساءل، لأعرف أن الأسطوانة ليست تسجيلا لإعلان العطر. هى أسطوانة «كارمينا بورانا» كاملة، السيمفونية الأشهَر لكارل أورف.

وأنها قُدمت للمرة الأولى فى 1937، مستندة إلى 24 قصيدة وُجدت فى القرون الوسطى، وأن الموضوع أكبر وأعمق بكثير من إعلان «أولد سبايس». أتساءل، أيضا، عن تفسير الجيران، فى حيّنا الريفىّ الذى زحف عليه الحضر، لما كانوا يسمعونه خارجا من شقتنا. الأمر نفسه حدث مع موسيقى «شهرزاد» الشهيرة لنيكولاى ريمسكى كورساكوف، والتى ظللت سنوات أتصور أنها مأخوذة عن «تتر» مسلسل ألف ليلة وليلة، الذى غنّته سميرة سعيد، وقام ببطولته كل من حسين فهمى ونجلاء فتحى! 3 فى الصف الثانى من المرحلة الإعدادية، انتابت الجميع صدمة رسوبى فى الامتحان للمرة الأولى فى حياتى. لن يأتى لأبى وأمى قلب مواصلة العقاب بحرمانى من رحلة المصيف.

كانت الزيارة الأولى إلى الإسكندرية. أعمامى وعماتى سبقونا إلى شقّة تطل على شاطئ ميامى، تحديدا فى العمارة التى فوق مقهى «أبو هاشم» الشهير، والمكتوب بخط كبير على واجهتها: «لا بيرة، لا خمور». رأى أبى أن ننزل فى فندق «سويس كوتاج» المطلّ على شاطئ جليم. فى الطريق سألته إن كان غيّر بعض الجنيهات بالعملة السكندرية. ولم أفهم لماذا انفجر فى الضحك. كل صباح نستقل سيارة أجرة إلى ميامى حيث باقى العائلة. السيارات التى استقللناها، بلا استثناء، تنطلق داخلها أغنية واحدة فى مقاطعها المختلفة، لا أعرف اسم مطربها. على الشاطئ يتمشّى الشباب فى مجموعات، وبين كل مجموعة يحمل أحدهم جهاز تسجيل على كتفه، لتخرج منه الأغنية نفسها، الجميع يغنى من حولك: «يا واد يا اسكندرانى».

عندما عدنا إلى القاهرة، لم أتصور أننى سأسمع ثانية عن المطرب الشاب مصطفى قمر. فى الفترة الزمنية نفسها، سيختار المخرج خيرى بشارة والكاتب محمد المنسى قنديل اسم الحىّ الذى سكنّاه فى زيارتنا الأولى للإسكندرية، ليشكّل ما سيصبح، بعد سنوات، نوستالجيا جديدة، بكل أغانيه التى كتبها مدحت العدل ولحنها بطل الفيلم عمرو دياب، وسُمى الفيلم باسم إحداها: «آيس كريم فى جليم»، بينما تدور أغلب أحداث الفيلم فى مدينة القاهرة. 4 كلنا شركاء فى الإسكندرية. السكندريون لا يحبون هذا كثيرا. نزعجهم فى شهور الصيف بالزحام والعشوائية. فى النهار لا مكان لقدم على الشواطئ الملتحمة بشارع الكورنيش. وفى الليل أيضا، حيث تلك الشواطئ ليست بعيدة عن أماكن التنزه المسائية. أماكن لأجسادنا عليها علامات. المصطافون يصِلون الليل بالنهار. يُشكّلون بساطا بشريا يمتد من البحر ليعبر الطريق زاحفا داخل الشوارع المتعامدة عليه. الكثافة لم تخفّ بإعمار ضواحى المدينة. شعبوية لا علاقة لها بالإمكانيات المادية. الأجيال الجديدة تبتعد عن المصيف السكندرى، إلا أن زحامه لا يتأثر. هو قدر أبناء عروس المتوسط. يبتهج أغلبهم بمحاولات تطوير المدينة عمرانيا، لكن هذا لا يُسعدنا. نحن أبناء المدن الأخرى، لنا فيما تزيله الحكومة ذكريات. 5 عندما عُدنا من الزيارة الأولى للإسكندرية، اشتريت نسخة مزورة من شريط مصطفى قمر، وأحببت أكثر أغنية «البيانولا». الآن أود لو أتذكر تلك الأغنية التى كان ينهيها مصطفى قمر بصفّارة من فمه، وتشبه الصفّارة التى كان يطلقها عمّى من شقته بالدور الأرضى، لتمر عبر فضاء المنور ونسمعها من نافذة المطبخ بالدور الثالث، ليعرفنا أنه مستيقظ فى ذلك الوقت المتأخر من الليل. كان شيئا من الونس.

 

هشام أصلان كاتب وصحفى
التعليقات