وداعًا على أبو شادى - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وداعًا على أبو شادى

نشر فى : الجمعة 23 فبراير 2018 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 23 فبراير 2018 - 9:45 م

مات الأب والأخ والصديق والناقد الكبير على أبو شادى عن 72 عاما، وما لا يحصى من الذكريات والمحبة والسيرة الطيبة؛ مات على أبو شادى بهدوء ووداعة برغم حياته التى عاشها فى حركة ودأب ونشاط لا يكل ولا يمل؛ لم يكف لحظة عن العمل؛ لم يتوقف أبدا عن العطاء والمنح وممارسة أدواره الإنسانية والثقافية على أحسن ما يتمنى إنسان فى حياته وتبقى سيرته بعد مماته.

أعترف بأن خبر وفاته نزل علىّ كالصاعقة؛ أعلم أننا كلنا راحلون؛ وإلى زوال، لكننا بشر؛ وما نشعر به من فجيعة وجزع وألم فى فقدان عزيز هو من جملة تكويننا كبشر؛ لسنا آلهة ولا ملائكة؛ تنخلع قلوبنا وتضطرب نفوسنا وتجزع أرواحنا لدى رحيل غالٍ؛ خصوصا لو جمعتك به صلة إنسانية فريدة؛ لو أحببته من قلبك وتغلغلت معزته فى روحك؛ الأمر يصبح أصعب وأكثر فداحة وألما.

بت أكره سيرة الموت والحصار الذى يفرضه على وعينا بعد الأربعين؛ «الحياة فيضٌ من الذكريات تصب فى بحر النسيان.. أما الموت فهو الحقيقة الراسخة».. نعم. هكذا يقول نجيب محفوظ على لسان الشيخ عبدربه التائه فى (أصداء السيرة الذاتية). الموت هو الحقيقة الوحيدة التى تفرض حضورها على وعينا فى هذه الدنيا الفانية؛ تعبت من الألم المتكرر الذى يخلفه غياب صديق أو رحيل عزيز أو إنسان جمعتك به صحبة نبيلة وعلاقة إنسانية خاصة؛ فيها الود، وفيها التقدير، وفيها المحبة الخالصة بلا غاية ولا مصلحة.

لا أجد تفسيرا مقنعا للحزن الشديد الذى ضربنى بمجرد علمى بنبأ وفاة على أبو شادى؛ ولا لهذا الكم من الدموع التى تدفقت كالسيل وبغزارة أدهشتنى، لليلتين كاملتين دون توقف؛ هل لأننى كنت أحب الرجل؟ نعم. أحببته كأب؛ أحببته أستاذا وصديقا وناقدا.. لكن ليس هذا وحده هو السبب؛ هل ربما لأن آخر ما جمعنى به مكالمة تليفونية طويلة؛ قبل وفاته بأقل من أسبوعين، استمرت هذه المكالمة لأكثر من ثلاث ساعات متصلة، قمنا فيها بمراجعة الكتاب الذى أعده صديقى وأخى محمود عبدالشكور عنه بمناسبة تكريمه فى مهرجان الإسماعيلية الدولى؟ لا أعلم.

لكنى أعلم جيدا أنه فى هذه المكالمة كان مختلفا؛ صوته كان عميقا جدا؛ مفعما بحكمة غريبة وهدوء أغرب؛ كأنه يؤدى واجبه الأخير، يملى رسالته الأخيرة، يُدقق بصورة مذهلة؛ الحرف والكلمة والجملة والعبارة والنقطة.

توقف لدى عبارة معينة كان يصف فيها موقفا جمعه بأحد الأشخاص الذين عملوا معه خلال تجربته الإدارية الطويلة فى أروقة وزارة الثقافة، وطلب منى تغييرها قلت له: ماذا بها؟ ليس فيها أى شىء يقتضى التغيير.. فلم تغيرها؟ قال لى: «يا عم إيهاب مش عايزين حد يزعل مننا؛ ندِى لكل واحد حقه من غير ما نزعَل حد».

لم أر أحدا بهذا الحرص على مشاعر الناس ولو بكلمة فى كتاب؛ لن يقرأه إلا المهتم، ولربما وقع الكتاب بين يدى هذا الشخص ولن يقرأه أبدا!

الحزن الذى خلفه رحيل على أبو شادى بداخلى أكبر من قدرتى على الاحتمال؛ الغياب محنة، محنة قاسية جدا ومؤلمة للغاية، تحاول أن توقف الشلال المتدفق من تداعى الأفكار والذكريات وتمنع نفسك من الانجراف فى طوفان من الكآبة والعزلة والوحشة الداخلية؛ لا شىء يبدد ذلك أبدا؛ لا تملك إلا الاستمرار فى ما هو مقضى عليك أن تعيشه وتتجرعه إلى النقطة الأخيرة.

أنا لا أرثى على أبو شادى ولا أكتب ناعيا إياه؛ أنا أرثى لحالنا جميعا؛ نأتى إلى هذه الدنيا ببراءة ونحياها فى مشقة ونغادرها فى أسى، مهما طال العمر فالحياة قصيرة؛ وعمر الإنسان واحد لا يتعدد ولا يتجزأ؛ هى رحلة تبدأ فى ميقات معلوم وتنتهى فى ميعاد محتوم.

«كلمتين وبس»!

«وتبين لى أن بينى وبين الموت عتابا، ولكننى مقضى علىّ بالأمل».

«رأيت الشيخ عبدربه التائه ماشيا فى جنازة. ولعلمى بأنه لا يشيع إلا الطيبين، انضممت إلى صفه حتى صلينا عليه معا. ثم سألت الشيخ عنه فقال:

ـ رجل نبيل وما أندر الرجال النبلاء. أبى رغم طعونه فى العمر أن يقلع عن الحب حتى هلك..».

(نجيب محفوظ ـ أصداء السيرة الذاتية).