الدرجة الثالثة - سيد قاسم المصري - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدرجة الثالثة

نشر فى : الإثنين 24 فبراير 2014 - 6:10 ص | آخر تحديث : الإثنين 24 فبراير 2014 - 6:10 ص

مع حلول يوم الخميس آخر أيام العمل فى الأسبوع.. كان على الموظف الكبير بوزارة المالية أن ينهى أعمالا كثيرة لا تتحمل الانتظار وظل يعمل فى مكتبه حتى غروب الشمس عندما تلقى نبأ وفاة أحد أقربائه المقربين فى مركز بنى مزار بمحافظة المنيا، إذن لابد من السفر هذا المساء حتى يشارك فى الجنازة ويحضر أولى ليالى العزاء على الأقل. أبلغه سكرتيره بأن القطار ذا الدرجة الأولى الممتازة المكيفة سيقوم الساعة الثامنة مساء وليس أمامنا سوى ساعة واحدة وعلى سيادته أن يغادر الآن إذا أراد اللحاق به.

عند وصولهما إلى محطة مصر فى باب الحديد لم يكن متبقيا على مغادرة القطار سوى دقائق قليلة الأمر الذى لا يتسع لشراء التذكرة، فوافق على اقتراح السكرتير بأن يدفع التذكرة مع الغرامة داخل القطار.

كان الأمر أشبه بساحة القتال فى رصيف المحطة.. الكل يتدافع وهم محملون بالحقائب والأسبتة والشوالات والبؤج.. والقليل يستخدم أبواب العربات لدخول القطار بينما الكثرة تستخدم النوافذ.

لم يوافق على الاقتراح الثالث للسكرتير بأن يفعل فى روما مثل ما يفعل الرومان ورمقه بنظرة قاسية.. إلا أن عربات الدرجة الأولى مازالت بعيدة وبعد دقيقة واحدة سوف يتحرك القطار.. فوافق على أن يدخل من إحدى عربات الدرجة الثالثة ثم يمشى داخل القطار حتى يصل إلى الأولى.. ولكن من الباب وليس من الشباك.

•••

بعد جهد جهيد استطاع أن يدخل عربة الدرجة الثالثة فوجد أمة من الناس تملأ فراغ العربة بالكامل.. على المقاعد وعلى المساند بل وعلى الأرفف المخصصة للشنط.. ولم يستطع التحرك لا إلى الأمام ولا إلى الخلف.. بعد أن تحرك القطار ووقف فى محطة الجيزة وحمل مزيدا من الركاب.. ازدادت المشقة على الموظف الكبير فرق لحاله أحد الركاب الصعايدة أو النوبيين من ذوى العمامة الكبيرة.. وعلم أن هذا الرجل يعانى معاناة شديدة لأنه غير معتاد على هذا النوع من السفر.. فطلب من أصغر أبنائه الذى كان يجلس بجوار النافذة ترك المقعد للأستاذ.

•••

كان هذا أجمل كرسى جلس عليه فى حياته لولا أنه شعر بقطرات مياه تتساقط عليه من رف الشنط فنظر إلى أعلى فوجد عجوزا ضئيل الجسد ينظر إليه ويقول «ما تخفش يا بيه دى ميه طاهرة.. أصلى عاوز الحق المغرب حاضر» أتم الرجل وضوءه وهو فى رف الشنط وكأنه فى مكانه الطبيعى ولم يثر الأمر اندهاش أحد أو حتى اهتمام أحد.. وفى الحقيقة أنه توضأ بأقل كمية مياه ولم تفلت منه أى قطرة بعد ذلك.. ما كان من الموظف الكبير إلا أن استسلم وقال له: طيب أدع لنا.

•••

عندما وصل القطار إلى محطة مغاغة قبل نحو عشرين كيلومترا من محطة بنى مزار، قام الموظف الكبير استعدادا للنزول وحسنا ما فعل أنه تحرك قبل الوقت لأن الطريق إلى الباب كان مكدسا بحيث أخذ قطع الممر إلى الباب وقتا طويلا.. وكان البعض قد بدأ ينام حيث اقتربت الساعة من الحادية عشرة ليلا.. ما إن وصل إلى نهاية العربة حتى واجهته مشكلة أخرى فالركاب هنا مفترشون الأرض وهم يغطون فى نوم عميق بعد أسبوع طويل من المعاناة فى القاهرة والمشقة المصاحبة لبدء رحلة القطار الطويلة.. كانت أجساد النيام تحول دون فتح باب العربة للنزول فأخذ صاحبنا يهز النيام برفق مستأذنا فى النزول حيث قد أوشك القطار على الوصول إلى المحطة.

فشلت كل المحاولات المهذبة لإيقاظ النيام.. ثم إذا بأحدهم يعاتبه عتابا شديدا: يا أخى ما انتش شايف ان الناس نايمة؟ وعندما سأل: طيب كيف انزل؟ قيل له: زى خلق الله دى.. من الشباك!

ساعده أحد الشباب على الرصيف والتقطه وأنزله بسلام على الرصيف.

تذكرت هذه الواقعة التى حدثت لأحد الأصدقاء منذ عدة عقود.. تذكرتها وأنا أقرأ مقالا للدكتور أيمن الجندى فى جريدة «الشروق» بعنوان مصر الحقيقية يسرد فيه تجربته الممتعة مع الدرجة الثالثة.

•••

لقد حاول عبدالناصر إلغاء الدرجة الثالثة من القطارات، حيث اعتبرها إهانة لمجتمع ما بعد الثورة أن يظل مقسما إلى ثلاث طبقات.. خصوصا إذا جاء هذا التصنيف من هيئة حكومية كسكك حديد مصر.. وكان عبدالناصر متأثرا بما رآه فى الاتحاد السوفييتى والدول الاشتراكية حيث الدرجة موحدة إلا أن الدكتور مصطفى خليل وزير المواصلات فى ذلك الوقت ورئيس الوزراء فيما بعد عارض هذا الاقتراح، مشيرا إلى أن الدرجتين الأولى والممتازة هما اللتان تدعمان الدرجة الثالثة ويتمكنان الهيئة من جعل سعر التذكرة القاهرة/ الإسكندرية 60 قرشا فإذا ألغيت الدرجات وأصبح السعر موحدا فسيتضاعف سعر التذكرة ويصبح 120 قرشا. فنكون بذلك قد عاقبنا الفقراء.. ولم يصر عبدالناصر على فكرته وصمدت الدرجة الثالثة ولاتزال تخدم الملايين من أبناء هذا الشعب الصامد منذ أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان.

سيد قاسم المصري مساعد وزير الخارجية الأسبق
التعليقات