نمرة اتنين لم يكسب - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 4:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نمرة اتنين لم يكسب

نشر فى : السبت 24 يونيو 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 24 يونيو 2023 - 7:25 م
زار القاهرة الشهر الماضى ضمن فعاليات معرض الكتاب الفرنكوفونى المؤلف دايفيد فونكينوس، واحد من الخمسة روائيين الفرنسيين الأكثر مبيعا خلال العشر سنوات الأخيرة. لم يتغير منذ نجاحاته الأولى فى بداية الألفية الحالية وحتى روايته الأحدث «رقم اثنين» (Numéro deux) الصادرة عن دار نشر جاليمار فى يناير 2022، فهو دائما السهل الممتنع. أسلوبه يتسم بالبساطة والعمق والسخرية.. سخرية ناعمة قد يشوبها بعض الحزن، لأنه يتعرض للمشاعر الإنسانية بتحليل دقيق لا يخلو من الخفة، مع تغير العوالم التى يتطرق إليها. ينطبق هذا الوصف على روايته الأخيرة التى تتناول مصير من يصل للمركز الثانى فى أى مسابقة، من يكون قاب قوسين أو أدنى من الفوز، لكن يتم اختيار شخص آخر وتتبدل حياته نهائيا. لحظات تكفى لأن يتحول الحلم إلى كابوس يلازم من لم يحالفه الحظ لسنوات طوال، مثلما حدث لبطل رواية فونكينوس، الذى نتابع مسيرته منذ سن العاشرة وحتى بلوغه الثلاثين من عمره.
الطفل الإنجليزى مارتن جون هيل قادته المصادفة لأن يتم ترشيحه لدور هارى بوتر فى سلسلة أفلامه التى حققت نجاحا ساحقا وجعلته من أيقونات العصر الحديث. أصبحت صور هارى بوتر فى كل مكان على أكواب الشاى والحقائب والملابس والأدوات المكتبية، إلى ما غير ذلك، وصارت تلك الصور لعنة تلاحق الصغير الذى تم استبعاده، إذ تذكره بفشله وتؤكد على إحساسه بالرفض. نعيش معه مرارة هذا الإحساس الصعب تقبله وتفهمه من طفل فى مثل عمره، صار يشعر أنه منبوذ أو غير مرغوب فيه، بعد أن تحطمت أحلامه فى أن يستقبله العالم استقبال الأبطال، ويجالس لاعبى فريق كرة قدم «أرسنال»، ناديه المفضل.
• • •
يروى الكاتب كيف كان يتابع برنامجا تليفزيونيا مع ابنه خلال الفترة الأولى للكورونا، استضاف واحدة من الفريق المكلف بإجراء اختبارات الأداء لانتقاء ممثلى أفلام «هارى بوتر» سنة 1999، وذكرت أنهم ترددوا كثيرا بين طفلين، وعلى التو فكر فونكينوس فى مصير الآخر الذى تم استبعاده. وقد تعرض هو نفسه بالطبع لمواقف مماثلة حين رُشِح اسمه لنيل جوائز أدبية مختلفة منذ ظهوره وحتى حصوله على جائزة رينودو عام 2014، ووجود كتابه «شارلوت» على القائمة القصيرة لجائزة جونكور التى تمنح عادة للرواية الأفضل والأخصب خيالا فى العام نفسه.
مزج فونكينوس الوقائع الحقيقية بالخيال، درس كل التفاصيل التى تتعلق بصدور أجزاء «هارى بوتر» المختلفة وبمشوار مؤلفتها الخمسينية، جى كى رولينج، التى حصدت أرفع الأوسمة بعد أن كانت مجرد امرأة معنفة انفصلت عن زوجها، تهتم بابنتها وحدها وتعانى من ضيق الحال «حتى نزل الوحى عليها فجأة فى القطار، وتبدلت حياتها بشكل مذهل». لم يرغب الكاتب فى التعرف على أرشيف الطفل المستبعد ولا التفتيش فى ماضيه أو اكتشاف حاضره، بل فضل أن ينسج حكايته من وحى خياله، واختار له اسما وهميا، فلم يلتزم بالاسم الحقيقى. ركز جل اهتمامه على ألاعيب القدر التى تغير مصائر البشر، هذه الاختلافات الطفيفة والمصادفات الغريبة التى تجعلنا نسلك طريقا مختلفا، وكعادته يكون صوته الغائب الحاضر فى الرواية ليؤكد على فكرة «إعادة البعث» والقدرة على إدارة الألم لكى نخرج من التجربة أقوى وأصلب «فلا تفوتنا الحياة أو تضيع، بل هناك دائما فرصة لكى نبدأ من جديد».
ربما استلهم المؤلف هذه الفلسفة من تجربته الشخصية، حين أصابه مرض نادر فى القلب والرئة وهو فى السادسة عشرة من عمره، وظل حبيس الفراش فى المشفى لعدة أشهر، حينها التهم الكتب التهاما وبدأ يشعر بميله للكتابة، كما تعلم العزف على الجيتار، وهما الهوايتان اللتان لن يفارقهما بقية حياته، بل عمل مدرسا للموسيقى فى البداية، ثم امتهن الكتابة ونشر 19 رواية وأنجز العديد من السيناريوهات وعمره لا يتجاوز 48 سنة.
• • •
يجعلنا المؤلف نتعاطف مع «رقم اثنين»، نرى الحكاية بعينى طفل مرهف الإحساس، من خلال نظارته المستديرة. يصف مشاعره عند انفصال والديه، ورحلاته بين لندن وباريس حين يتنقل بين الأب والأم الصحفية التى يزورها فى عطلة نهاية الأسبوع. ثم مع موت الأب المفاجئ بسبب سرطان الرئة نشعر بعالمه يتهاوى، مثلما انهار برجا مركز التجارة العالمى بنيويورك فى العام نفسه. كان الأب يخشى ضمن ما يخشى أن يكون هو من ورث ابنه القدرة الهائلة على الفشل، لكنه رحل قبل أن يتمكن من مساعدة الصغير على اجتياز المحنة التى ستدوم عشرين عاما. يذكرنا الكاتب بنماذج أخرى «لنمرة اتنين الذى لم يكسب»: لاعب إيقاع البيتلز ــ بيت بيستــ الذى أجبر على ترك الفريق قبل أن ينال نصيبه من الشهرة فترك الموسيقى وفتح مخبزا، المؤلف الذى كاد أن يحصل على جائزة جونكور عام 1978 بدلا من باتريك موديانو وقد هجر الكتابة تماما وأراد أن يعمل كحارس فى متحف اللوفر، الممثل المرشح سابقا لدور طاهر رحيم فى فيلم «النبى»، وصيفة ملكة جمال فرنسا لعام 1987.. كل هؤلاء عرفوا طعم الخسارة ولم يتحملوه وأرادوا الاختباء والبعد عن الأنظار بقية حياتهم.
حين عمل مارتن هيل، بعد أن صار شابا، فى متحف اللوفر بباريس احترف الاختباء وسط اللوحات والأعمال الفنية النادرة. وقف طويلا أمام لوحة الموناليزا، معلقا: «الجيوكندا هى هارى بوتر الفن التشكيلى، فهى تجذب الأنظار دون غيرها، وتضع كل اللوحات المحيطة فى الظل، تكاد تصبح غير مرئية». ظل شبح هارى بوتر يطارده، يفسد علاقاته العاطفية ومحاولاته للتغلب على الفشل، إلى أن نسقت له حبيبته موعدا مع الممثل الذى قام فعليا بدور هارى بوتر أو الطفل الذى نافسه على الفوز قبل عشرين عاما وصار نجما عالميا. تحدث الاثنان معا عن حياتهما وحقيقة مشاعرهما، وأخيرا وصل مارتن لنوع من التصالح مع الذات، أنقذه حب صاحبته التى بذلت كل ما فى إمكانها لمساعدته. لم يعد يعانى فى صمت، ولم يعد وحيدا. تجاوز خسارته المبكرة وعبر إلى الضفة الأخرى. وربما يتحول قريبا إلى بطل فيلم سينمائى مأخوذ عن الرواية كما حدث لأعمال أخرى ناجحة من تأليف فونكينوس الذى يؤمن أننا جميعا مشاريع روايات محتملة.
التعليقات