المنتقم موجود - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المنتقم موجود

نشر فى : السبت 25 مارس 2023 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 25 مارس 2023 - 7:35 م

صارت الجملة الشهيرة التى رددها كمدا أحد الجدود مثارا للتندر فى أوساط العائلة عبر العصور. رُوى من جيل لآخر كيف كان يجلس على كرسيه فى صمت أو ينام على وسادته كالديك المذبوح ودموعه تكاد تنهمر من عينيه، وهو يكرر «المنتقم موجود». رفض أخوه الأكبر زواجه بالفتاة التى أحب، ولم يقوَ على المواجهة والوقوف أمام إرادته فاكتفى بهذه العبارة والتبرم فى سره بلا جدوى، تاركا الأمر لصاحب الملكوت. تعنُت رب العائلة الذى تحكم فى أمورها المالية وإدارة تجارتها كان يُضرب به المثل، وقد أدى كثيرا إلى مواقف تتأرجح بين المأساة والهزل.

الحفيد الذى يهوى السياسة والأدب أخذ يفكر فى تركيبة هذا الجد الذى التزم الجميع أمامه الصمت واكتفوا بهز رءوسهم فى إذعان. تأمل كيف امتد القمع واتسع وأنجب عنفا وحقدا دفينين لا يزال أثرهما موجودا فى الأسرة حتى الآن. تساءل كيف نشأ هذا المستبد، المسيطر، المهيمن، الطاغى، الجائر، الغاشم، الظالم، العاتى، المتحكم، المُتآمِر، المُتَجبِر.. الذى يشبه شخصيات وليم شكسبير بصفاتها الجذابة والمُنفرة فى آن واحد. به ملامح من الملك لير ويوليوس قيصر وماكبث وريتشارد الثالث: اعتزاز شديد بالنفس، رغبة فى السيطرة على الآخرين، عدم تعاطف، تحدى القوانين السائدة، قناعة بأحقية الصراع ضد من حوله... راح الحفيد يحلل الشخصية ويحاول الوصول إلى الأسباب التى جعلته يكبر على هذا النحو.. هل ورث جزءا من صفاته عن أمه، السيدة ذات القسمات الدقيقة التى كانت تُخزن الكحك من السنة للسنة ولا تسمح لأبنائها بالاقتراب منه إلا حين تأمر؟ هل تربيتها هى من حولته إلى هذا الكائن المتناقض فى قوة؟ المُحسن الذى يعطى الناس ليلا فى سرية تامة، لكنه يسلبهم حقوقهم فى الصباح ويكبت رغباتهم لأنه يرى أنه يفعل ما فيه الصالح العام؟
• • •

تذكر الحفيد التفاصيل التى كانت تُروى حول علاقته بالأكل، فقد كان يحب الطعام كثيرا ويستخف بكلام الأطباء حين ينصحونه بعدم تناول اللحوم لإصابته بالنقرس. وحينما تم احتجازه فى المشفى، كان على ذويه تهريب الدجاج المطبوخ بالبصل على طريقته، لأنه لا يستسيغ الوجبات الصحية المسلوقة. راح يقارن بين عاداته فى الأكل وتلك التى عُرفت عن بعض طغاة العالم أمثال هتلر وستالين وصدام حسين، فقد كان هذا الأخير يُقبِلُ على كل ما لذ وطاب ويصطحب معه فى رحلاته الرسمية ما يلزم لإعداد الأطباق المحلية المفضلة لديه، وكان على قناعة أن «البطون الشبعانة» لا تثور. اعتمد الجد أيضا هذه النظرية: اطعم الفم لتستحى العين. فهم أن توفير الغذاء كفيل بأن يحقق السلام الاجتماعى داخل الأسرة، ولو إلى حينٍ.

لا شىء كان من الممكن أن يفقده شهيته حتى فى أحلك الظروف، مثله مثل ستالين الذى ظل يأكل ويشرب ويدخن بشراهة مع تفشى المجاعة عامى 1932ــ1933 ووفاة الملايين فى العديد من مناطق الاتحاد السوفيتى، وظل يطلب من معاونيه مزيجا من الأصناف الروسية والجورجية، غير عابئ بجوع الناس، فهذه الشخصيات النرجسية لا تهتم بمشاعر الآخرين وتنتظر منهم الولاء التام، دون حد أدنى من الاعتراف بدورهم، أى إن خدمة من حوله له هى واجب ولا شكر على واجب!
• • •

ما ينطبق على الدول والحكام ينطبق أيضا على البيوت والعائلات، والعكس صحيح. فكر الحفيد أن ضعف المؤسسات وتخاذل النخب وصمتها فى إمكانه أن يعزز طبائع الاستبداد، وأن جده تمادى فى سيطرته وعنفوانه لأنه لم يجد من يقف ضده، بل كان هنالك نوع من الاستسلام وتوزيع الأدوار، الكبير ينفق ويأمر وينهى ويتحمل المسئوليات كاملة، وباقى أفراد العائلة «يتمرغون» فى خيره ويسمعون الكلام ويكتمون آراءهم. اكتفت زوجته بلعب دور الضحية، صارت تشبه «أمينة» سى السيد فى «بين القصرين». تكذب على الأب لتخفى فشل أولادها، رغبة فى حمياتهم من بطشه، كل ما فكرت فيه هو أن يعيشوا فى نعيمه، ولكى يتحقق ذلك فلابد من طاعته دون مناقشة حتى لا يغضب ويتطاير الشرر من عينيه، وبالتالى كَثُر عدد ضحاياه تدريجيا. هذا لم يوفق فى دراسته، وذاك عاش تعيسا فى زواجه، وثالث أراد أن يقلد جبروت الأب ويتحول إلى «عتريس صغير»...
مع رشفات الشاى، كان الإخوة يبتلعون مرارة فى الحلق. يرددون بصوت مخنوق «المنتقم موجود»، وينظرون إليه فى حقد، على أمل أن تزول الغمة ويحصلون على ما فى يده ويد أبنائه، لكن ضعفهم وسواد قلوبهم لم يساعداهم على فهم أن اليقظة هى بداية الطريق لنكون بشرا أحرارا وأسوياء، وأن البعد عن مثل هذه النماذج والتخلص منها غنيمة. وظلت الأجيال المتعاقبة تتوارث انتظار عدالة السماء.

التعليقات