الميناء البحرى المريب على ساحل غزة - أيمن النحراوى - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 12:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الميناء البحرى المريب على ساحل غزة

نشر فى : الثلاثاء 26 مارس 2024 - 7:15 م | آخر تحديث : الثلاثاء 26 مارس 2024 - 7:15 م

لم تنقطع التساؤلات منذ أعلن الرئيس بايدن أنه أصدر أوامره إلى مهندسى الجيش الأمريكى بتشييد ميناء بحرى على ساحل غزة لإيصال المساعدات، فالقرار تم استقباله من قبل مقرر الأمم المتحدة الخاص المعنى بالحق فى الغذاء مايكل فخرى الذى صرح بقوله: للمرة الأولى أسمع أحدًا يقول إننا بحاجة إلى استخدام رصيف بحرى، لم يطلب أحد رصيفًا بحريًا، لا الشعب الفلسطينى ولا المجتمع الإنسانى، ولم يتردد فى وصف المشروع الأمريكى بأنه خبيث، إذ إن الولايات المتحدة تقدم فى ذات الوقت إمدادات لا تنقطع من السلاح والمال لإسرائيل.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد قوبل القرار بعاصفة من الجدل وعلامات الاستفهام من قبل العديد من المحللين والسياسيين فى العالم، لا سيما أن معظمهم أشار إلى أن ذلك القرار ليس إنسانيًا خالصًا، وأنه من المؤكد أنه يحمل فى طياته وأهدافه أغراضًا أمريكية أخرى مغلفة بذلك الإدعاء الإنسانى.
والذى يؤكد ذلك إلى حد كبير أن إسرائيل لم تمانع أو تعترض على الفكرة، بل أشارت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، إلى أن نتنياهو هو من اقترح على الرئيس الأمريكى فكرة ذلك الميناء البحرى، معددًا أهدافها وأغراضها التى ستخدم مصالحهما أكثر مما تخدم الفلسطينيين الذين يعانون من حرب وحشية دموية غير مسبوقة.
• • •
بالنسبة للرئيس بايدن فذلك المشروع يتوافق مع أجواء الانتخابات الأمريكية باعتباره فى حاجة ماسة إلى إرضاء مناصرى الحزب الديمقراطى المعتدلين والأصوات العربية والمسلمة الداعمة للشعب الفلسطينى، وكذلك جانب من الرأى العام الأمريكى بإظهار أن إدارته تقدم المساعدات إلى غزة رغم معارضة المتطرفين فى الحكومة الإسرائيلية.
ومن جهة أخرى فهذا المشروع يبيض وجه الولايات المتحدة ويغسل أيديها من دماء الضحايا الفلسطينيين فى غزة، ويبين للعالم أن سياسة الولايات المتحدة لها جانبها الإنسانى، لا سيما أن العالم أجمع بات ينظر باشمئزاز للدعم الأمريكى اللا نهائى لإسرائيل من الأسلحة والذخائر الفتاكة التى تستخدمها دون أى اعتبار ضد الفلسطينيين.
• • •
فى ذات الوقت يقدم مشروع الميناء البحرى إبراء ذمة لإسرائيل فى مواجهة القانون الدولى الإنسانى الذى يلزم إسرائيل كقوة احتلال بتأمين حاجات السكان المدنيين من الغذاء والدواء، على اعتبار أن استمرار فرض الحصار الإسرائيلى على غزة يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.
فحرمان سكان غزة بشكل ممنهج من الحصول على الاحتياجات الأساسية للبقاء يشكل جريمة ضد الإنسانية وفق المادة 7 من النظام الأساسى، كما أن استمرار منع دخول الحاجات الأساسية للمدنيين وتقييد حركة الأفراد والمرضى يمثل انتهاكًا جسيمًا للمادة 8 التى تجرم التسبب عمدًا فى معاناة السكان المدنيين.
• • •
وعلى الرغم من الدعاية الأمريكية الإسرائيلية التى تضفى على مشروع الميناء البحرى فى غزة طابعًا إنسانيًا، فإن حقيقته تتضمن أيضًا تشكيل كيان بديل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لتوزيع المساعدات بعيدًا عنها، ووضع الإمدادات بالكامل فى قبضة إسرائيل وحلفائها، للتحكم فى حياة وعيشة سكان القطاع.
ويأتى ما سبق فى إطار واحد مع مخطط وقف تمويل وكالة الأونروا وعدم تجديد تصاريح عمل موظفيها تمهيدًا لتصفيتها، إذ إن وجود الأونروا كان يؤمن للاجئين الفلسطينيين فى قطاع غزة الحد الأدنى من الخدمات الطبية والتعليمية والغذائية، دون تدخل إسرائيلى مباشر.
العالم أجمع يعلم أن المنافذ البرية إلى قطاع غزة موجودة وإدخال المساعدات منها هو أسهل الخيارات وأكثرها عملية، وهو ما قامت به مصر منذ بدء الحرب الوحشية الإسرائيلية على القطاع عبر معبر رفح، بشهادة المفوض العام لوكالة الأونروا بأن مصر لم تغلق معبر رفح فى أى يوم منذ بدء الحرب فى غزة، متهمًا إسرائيل بتعويق دخول المساعدات إلى القطاع، وهو ما يحدث بالفعل مع وجود آلاف الشاحنات على الجانب المصرى تمنعها إسرائيل من دخول غزة.
بذلك يحقق مشروع ذلك الميناء تهميشًا للجانب المصرى ودوره فى القضية الفلسطينية، بإخراج معبر رفح البرى على الحدود مع مصر عن الخدمة، وهو المنفذ الوحيد لغزة مع العالم الخارجى والوصول لإغلاقه تمامًا هو وغيره من المنافذ وإخراج مصر من المعادلة، وبحيث يصبح الميناء هو المنفذ والشريان الوحيد لغزة تحت سيطرة إسرائيل وحلفائها، الذين سيتحكمون بذلك فى حياة سكان القطاع.
• • •
من جهة أخرى وبعد وقوف مصر بصلابة فى مواجهة مخطط تهجير الفلسطينيين وإجبارهم على النزوح إلى سيناء، يأتى مشروع ذلك الميناء، ليخدم الأهداف الإسرائيلية بطريقة أخرى، وهى تهجيرهم عن طريق البحر إلى مراكز إيواء وتجميع فى قبرص، ثم القيام تحت مختلف الحجج والذرائع الإنسانية بإرسالهم إلى دول مستقبلة للاجئين والمهاجرين، مثل كندا وأستراليا ودول أوروبية متنوعة، بحيث يتم تدريجيًا إخلاء القطاع من سكانه.
ولم يخف نتنياهو تلك الحقيقة حين أعلن أمام الكنيست ودون مواربة أن من يريد مغادرة قطاع غزة من الفلسطينيين يمكنه استخدام ذلك الميناء البحرى، وهذا هو المتوقع حدوثه مع توالى الهجمات الإسرائيلية الوحشية على السكان فى غزة ووقتها لن يجد البعض أمامهم مفرًا من الفرار بأرواحهم وأسرهم من ذلك الجحيم إلا ذلك الميناء حيث يتم ترحيلهم.
وبتدمير قطاع غزة وتهجير سكانه ستكون إسرائيل قد قطعت نصف الطريق أمام تصفية القضية الفلسطينية، عندئذ لن يكون متبقيًا لها سوى الضفة الغربية المحتلة، وهذه أمرها أسهل نسبيًا فهى بالفعل فى قبضة إسرائيل، فضلًا عن وجود مئات المستعمرات الصهيونية فيها شاغلة أكثر من نصف مساحتها ومع استمرار البناء الاستيطانى يوميًا، ستكون القضية الفلسطينية خلال عدة سنوات قد تلاشت من الوجود.
• • •
ولا يمكن فصل ذلك المشروع عن أغراض خفية أخرى تتعلق بالاقتصاد إذ إن البحر الإقليمى أمام ساحل غزة يعد منطقة مؤكدة لاحتياطيات كبرى من الغاز الطبيعى، وهى مطمع لإسرائيل وللشركات العالمية، لا سيما أن كمياتها فى حقل غزة مارين تقدر بنحو 1.4 تريليون قدم مكعب.
ويؤكد ذلك قيام وزارة الطاقة الإسرائيلية منذ فترة بمنح تراخيص لست شركات إسرائيلية وعدة شركات دولية كبرى للتنقيب الاستكشافى عن الغاز الطبيعى فى المناطق أمام ساحل غزة التى تعتبر بموجب القانون الدولى مناطق بحرية فلسطينية، كما سبق أن عرضت وزارة الخارجية الإسرائيلية على الاتحاد الأوروبى مخططًا لميناء لتصدير الغاز من غزة.
البعد الآخر لإنشاء ذلك الميناء البحرى يرتبط بالطموحات الإسرائيلية فى مجال النقل الدولى واللوجيستيات، والتى تقوم على تقديم نفسها للعالم كحجر زاوية لمشروع الممر الاقتصادى بين الهند والخليج وأوروبا، حيث يعتبر إحكام قبضتها على غزة وإقامة تسهيلات بحرية فيها بمثابة جزء من ذلك المشروع لنقل البضائع والنفط والغاز إلى أوروبا.
• • •
يبدو إذن أن المسألة ليست إنسانية كما هو ظاهر، بل هى خطة متكاملة ذات أبعاد وأغراض سياسية واقتصادية متشعبة، يدفع ثمنها الفلسطينيون الأبرياء بأرواحهم ودمائهم ومستقبلهم.. وإن غدًا لناظره قريب.

أيمن النحراوى  خبير اقتصاد النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات
التعليقات