مصر هى البلد الوحيد فى العالم الذى له علم متكامل يحمل اسمه وهو علم المصريات/إيجيبتولوجى، وهو العلم الذى يختص بدراسة حضارة وتاريخ مصر وكتاباتها وآدابها ودياناتها وفنونها وعمارتها وعلومها، كما أن مصر لديها شىء آخر تتميز وتنفرد به عن بقية بلاد العالم، وهو الافتتان بالمصريات، إيجيبتومانيا، وهى حالة الانبهار بمصر والحضارة المصرية.
فى ذلك الزمان كانت مصر هى مقصد طالبى العلم والمعرفة من كل أنحاء العالم، وكان أقرب هؤلاء هم اليونانيون، وقد ذكر ديودور الصقلى فى كتابه تاريخ العالم أن جميع اليونانيين الذين اشتُهروا بالعلم والحكمة جاءوا إلى مصر فى العصور القديمة حتى يتعلموا وينهلوا من علومها.
الإسكندر المقدونى جاء إلى مصر منبهرًا بحضارتها وتاريخها وعلومها، وسعى لاجتذاب رضا الكهنة المصريين وسافر لأكثر من 1500 كم ذهابًا وإيابًا إلى معبد آمون فى سيوة ليلتقى بهم ويسمع منهم الحكمة ويتلقى مباركتهم.
• • •
فى العصر الحديث كان كتاب رحلة بحرية إلى مصر العليا والسفلى الذى كتبه دومينيك فيفانت 1802 ومجلدات موسوعة وصف مصر التى أعدها علماء الحملة الفرنسية، والتى نُشرت عام 1809 ثم اكتشاف حجر رشيد وقيام جان فرانسوا شامبليون بحل رموز الكتابة الهيروغليفية عام 1822 جميعها دشنت بدء مرحلة كبرى فى تأسيس وتطور علم المصريات، والهوس بالمصريات فى أوروبا.
وفى عام 1828 جاء إلى مصر جان فرانسوا شامبليون، ونيستور لوت، وروسيلينى، وقاموا باستكشاف خمسين موقعًا أثريًا فى مصر وسجلوا ملاحظاتهم فى ست مجلدات كبيرة، ووقتها قدم شامبليون إلى محمد على باشا التماس بتنظيم التنقيب والحفريات ووضع قوانين لمنع سرقة وتهريب الآثار المصرية، كما قدم بعده رفاعة الطهطاوى التماسًا آخر للحفاظ على الآثار المصرية.
وفى عام 1836 كانت إقامة المسلة المصرية فى ميدان الكونكورد فى باريس بمثابة حدث مدوى، واكبته إقامة العديد من معارض الآثار المصرية فى كل أنحاء أوروبا، فأسهمت فى انتشار الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة من خلال تقديم نماذج من المعابد والصروح المصرية وعرض التماثيل والقطع الأثرية المصرية التى تدفقت من مصر بالآلاف إلى أوروبا.
فى ذات المرحلة، قام فنانون شهيرون مثل فرانز كريستيان جاو، وجيوفانى بانينى، وفريدريك كاثر وود، وديفيد روبرتس برسم العديد من اللوحات للمعابد والآثار المصرية فأسهموا فى تصاعد الاهتمام بمصر وحضارتها وتاريخها.
وفى عام 1858 بدأت جهود أوجيست مارييت لإعادة تنظيم الآثار وتصنيفها ووضع القوانين لمواجهة التهريب والسرقة، فتم تأسيس أول متحف مصرى بالقاهرة لحفظ الآثار، وفى ذات المرحلة تم وضع أسس علم المصريات من خلال أبحاث إيمانويل دى روج فى فرنسا، وصمويل بيرش فى إنجلترا، وهاينريش بروجيش فى ألمانيا، وإدوارد نافيل، ووايزنر، وهربرت وينلوك، وفى عام 1880 قام فلاندرز بيترى بنقلة نوعية فى مجال علم المصريات بوضع القواعد المنظمة لعمليات التنقيب وحفظ وتسجيل الآثار.
وفى الولايات المتحدة أدى تأسيس المعهد الشرقى فى جامعة شيكاغو وبعثة جيمس هنرى برستد إلى مصر إلى تطور دراسات وأبحاث علم المصريات، وأخذ كل من متحف متروبوليتان للفنون، وجامعة بنسلفانيا، ومتحف الفنون الجميلة فى بوسطن، ومعهد بروكلين للفنون الجميلة، ومعهد الفنون الجميلة بجامعة نيويورك فى تقديم التمويل لعمليات البحث والتنقيب ودراسة الآثار المصرية.
كان لكل ما سبق أثر كبير فى تصاعد الاهتمام العالمى بمصر وحضارتها وتاريخها وظهور موجة عارمة من الافتتان بالمصريات، فألقت بتأثير هائل على كل مجالات الثقافة الغربية فى الفكر والأدب، والفنون والرسوم، والهندسة المعمارية، حيث تم تصميم مئات المبانى فى أوروبا وأمريكا على الطراز المعمارى المصرى القديم.
وفى عام 1922 بلغ الاهتمام بالآثار المصرية ذروته بعد اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون، فاجتاحت العالم موجة جديدة هائلة من الافتتان بالمصريات، وتوسعت أبحاث ودراسات علم المصريات بدرجة غير مسبوقة، وتأسست فى جميع أنحاء العالم كليات ومعاهد وجمعيات لدراسة علم المصريات، وباتت المتاحف العالمية تتبارى فى عرض مجموعاتها من الآثار المصرية.
لا نبالغ إذا كتبنا أن أكبر وأشهر الجامعات الأوروبية والأمريكية وكذلك الجامعات فى الصين واليابان والهند وأستراليا وأمريكا الجنوبية تضم الغالبية العظمى منها كليات ومعاهد وبرامج دراسية متخصصة لدراسة علم المصريات، فضلًا عن برامج الدراسات الحرة للهواة ومحبى علم المصريات.
• • •
اليوم ونحن نعيش حدثًا ثقافيًا وحضاريًا عالميًا فريدًا وهو افتتاح المتحف المصرى الكبير، يمكن لنا أن نفكر ونتطلع نحو تأسيس أكاديمية عالمية كبرى لعلم المصريات لتعمل فى إطار المتحف المصرى الكبير، وفى ذات المنطقة التاريخية العظيمة، وبحيث تقوم هذه الأكاديمية على مكتبة هائلة من المراجع والكتب والأبحاث فى علم المصريات بجميع اللغات العالمية، وقاعات بحثية ومعامل مجهزة بأعلى مستوى من الأجهزة والمعدات الحديثة.
وبحيث تكون هذه الأكاديمية بمثابة صرح عالمى للمؤتمرات والندوات والفعاليات وإجراء الدراسات والأبحاث بمستوى الدراسات العليا وما بعد الدكتوراه فى مجال علم المصريات، لتعمل متكاملة مع أنشطة المتحف المصرى الكبير وفى إطاره، ولتكون مقصدًا لكل علماء وباحثى ودارسى ومحبى علم المصريات من جميع أنحاء العالم.
هذه الأكاديمية سيكون لها عضويات لكل من يرغب فى الانتساب إليها من مصر ومن جميع أنحاء العالم وبضوابط وشروط محددة، كما سيكون لمتخصصى علم المصريات الأعضاء بها درجات مثل عضوية وزمالة الأكاديمية وفق إسهاماته العلمية فى المجال.
ستكون الأكاديمية بمثابة مجمع عالمى شامل لدراسات وأبحاث ومؤتمرات علم المصريات، بالتعاون مع أكبر وأهم كليات ومعاهد علم المصريات فى العالم.
ستكون -أيضا- الجامعات العالمية بكلياتها ومعاهدها ومراكز أبحاثها وكذلك المتاحف العالمية حريصة على إمداد أكاديمية علم المصريات بنسخ مما لدى مكتباتها وقواعد البيانات بها من المراجع والكتب والأبحاث، وكذلك ستكون حريصة على التواصل العلمى معها على مختلف الأصعدة.
اليوم ونحن نشهد ونعيش ذلك الحدث التاريخى الفريد بافتتاح أكبر متحف فى العالم، جدير بنا أن نفكر فى تأسيس أكبر أكاديمية لعلم المصريات فى العالم، إن مصر تستحق ذلك، وهى قادرة على تحقيقه.
أستاذ ومستشار الاقتصاد الدولى واللوجيستيات