الملابس الطائرة - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الملابس الطائرة

نشر فى : السبت 26 نوفمبر 2022 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 26 نوفمبر 2022 - 9:15 م

فى الهواء المعبأ بالغازات والعوادم، تحت شمس الظهيرة، انطلقت «شماعات» الملابس وحدها يمينا وشمالا، وسط زحام السيارات، مدفوعة على عجلاتها. علقها الباعة المتجولون على مشاجبها العمودية وتركوها لحال سبيلها فى الشارع، لتصطدم أحيانا بالمارة وتحاول العربات تفاديها، والثياب تتراقص هنا وهناك بألوانها الزاهية وقد بُين عليها أن سعر القطعة الواحدة 35 جنيها.
أراد الباعة تبرئة أنفسهم من تهمة شغل الطريق العام بوسط المدينة، فتفتق ذهنهم عن هذه الفكرة العبثية ليبعدوا عنهم الشبهات ويتنصلوا من المسئولية، وكأن الملابس قد حصلت على استقلالها وقررت أن تطير بحرية على عجلاتها دون الحاجة إلى مرافقين.
ارتفعت أصوات أبواق السيارات لتنضم إلى عناصر موسيقى المشهد الكرنفالى الذى يأخذنا إلى عوالم الواقعية السحرية على الطريقة المصرية، حيث التفاصيل اليومية أغرب من الخيال.
• • •
يكتسب الشارع بالفعل فى مثل هذه الأجواء بعدا كرنفاليا، فتنعكس من خلاله الضغوطات والعلاقات المتوترة بين الأطراف المختلفة. تظهر على السطح الرغبة فى تحدى النظام المعمول به، وتكون ردود الأفعال مندفعة أو عنيفة أحيانا، فكل شىء متوقع من هؤلاء الأشخاص الذين يشغلون الفضاء العام، بل قرر بعضهم الاستحواذ عليه وتولى زمام الأمور.
كل ما يضمره الخيال الجمعى يخرج للعلن. الباعة الذين تم طردهم مثلا من الشوارع الخلفية لسوق الملابس الشعبى ببولاق الدكرور بسبب أعمال الحفر والتطوير قرروا أن جزءا من الطريق الرئيسى المجاور هو مكان مناسب للاسترزاق، وبالتالى هو ملك لهم وعلى المتضرر أن يكتفى بالمراقبة عن بعد أو أن يسلك طريقا آخر.
وبما أنهم اعتادوا لعبة الكر والفر مع شرطة المرافق وغيرها من عناصر الأمن، فقد جاء مشهد الملابس الطائرة على «شماعتها» ضمن المناورات والانسحابات «التكتيكية» التى يمارسونها من وقت لآخر لتجنب المواجهة الكاملة مع «العدو».
هجوم وتراجع، مناوشات عدة، فرار لا رجعة فيه أو هدنة لاستعادة الصفوف، والملابس تتنقل مع أو بدون أصحابها فى جميع الأحوال، كل ما يتغير مع الزمن هو السعر المُثبت عليها وربما الموضات.
• • •
يقدر عدد الباعة الجائلين فى مصر بنحو ستة ملايين، منهم 1.5 مليون فى القاهرة، وتضم منطقة وسط البلد وحدها، تحديدا الأسواق الشعبية بشوارع بورسعيد والعتبة والموسكى ورمسيس أكثر من 600 ألف بائع متجول، وفقا للدراسات التى حاولت رصد الظاهرة واجتهدت فى توفير بعض الأرقام التقريبية. وجودهم يطرح بشدة إشكالية الحق فى العمل والحق فى الفضاء العام، فمن ناحية يعترض فريق على احتلالهم للشوارع والطرقات وتعطيلهم للسير فى كثير من الأوقات، ومن ناحية أخرى يضفى عليهم فريق آخر صورة رومانسية باعتبارهم من الطبقات المهمشة التى يقع عليها ظلم اجتماعى واقتصادى وتناضل من أجل الرزق، فهم جزء من الاقتصاد غير الرسمى الذى يشكل 30% من إجمالى الناتج المحلى، مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات، وبالتالى فمن الأفضل للجميع أن يتم تقنين أوضاعهم على غرار ما حدث فى دول كالهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وتايلاند.
على سبيل المثال لا الحصر أقر البرلمان الهندى سنة 2014 قانون الباعة الجائلين الخاص بحماية سبل العيش وتنظيم حركة البيع فى الشارع، فى حين ما يحكمنا فى مصر بهذا الصدد هو القانون رقم 33 لسنة 1957 الذى لم يُمس منذ أكثر من ستين عاما، بحسب دراسة أجرتها الباحثة شيماء الشرقاوى لمنتدى البدائل العربى، إذ لم يتم تعديله ليتماشى مع حجم الظاهرة وكل ما طرأ على الأوضاع كان يتعلق بتغليظ العقوبات والغرامات، فى عامى 1981 ثم 2012. وعلى هذا النحو يستمر الباعة الجائلون فى ابتكار أساليب للتحايل على الفساد الإدارى، للوثوب والهرب، للاختفاء والظهور.
• • •
هى بعينها أساليب الكر والفر التى وصفها الجاحظ قديما: القط يتابع الفأرة، فإذا وثب عليها لعب بها ساعة ثم أكلها، وربما خلى سبيلها وأظهر التغافل عنها فتمعن الفأرة فى الهرب، فإذا ظنت أنها نجت وثب عليها وثبة فأخذها.. أحيانا يعطيها انطباعا بالأمان ثم يتلذذ بتنغيصها وتعذيبها، وهكذا دواليك، كأننا نتحرك داخل أقفاص مفتوحة الأبواب ونسكن مدينة عامرة بالأشباح.
عاش فيها قبلنا آخرون، ومارسوا ألاعيبهم من أجل البقاء، ما أسفر ربما عن مواقف لا تقل عبثا عن مشهد «الملابس الطائرة» وسط فوضى الزحام. مدينة تُغنى فيها الخفافيش، وتُربط فيها الجبال بالحبال كى لا تمشى إلى الوراء.

التعليقات