ظاهـرة حمدين صباحى - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 7:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ظاهـرة حمدين صباحى

نشر فى : الإثنين 28 مايو 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 28 مايو 2012 - 8:40 ص

لساعات طويلة تعلقت أبصار ومشاعر بآمال أن يدخل المرشح الرئاسى «حمدين صباحى» جولة الحسم.

 

سادت كلمة واحدة شبكة التواصل الاجتماعى: «يا رب». كانت المؤشرات تتأرجح ونتائج الصناديق الأخيرة تعلن واحدة إثر أخرى، وعندما خذلت الأرقام المعلنة المشاعر المتوقدة أخذت اللحظة قطاعات واسعة من الشباب المصرى إلى نوبات كآبة مدفوعة بتصورات متعجلة أن الثورة قد انتهت وتضحياتها ذهبت سدى.

 

فى تلك اللحظة بتفاعلاتها السياسية والإنسانية تأكد حضور الأجيال الجديدة، النواة الصلبة للثورة المصرية، فى المشهد التاريخى.

 

رائحة الدموع فى نبرات الكلام رسالة إلى المستقبل.

 

بعض الهزائم أشرف من بعض الانتصارات، والبطل التراجيدى المهزوم هو مشروع انتصار مستقبلى.

 

المهم فى هذه اللحظة أن تدرك الأجيال الجديدة أنها المستقبل، وأن التجربة العميقة التى خاضتها منذ الثورة وحتى الآن لن تمحى، وأن الثورات قد تنتكس ولكن حركة التاريخ تصنعها فى النهاية الحقائق الأساسية. لا رجعة للخلف أو عودة للاستبداد. هناك مخاوف أن تسفر الانتخابات الرئاسية فى السيناريو الأسوأ الذى أفضت إليه الجولة الأولى عن أحد مصيرين: الانقضاض على الثورة أو الاستحواذ على الدولة. هذه مخاوف كابوسية يصعب أن تستقر على أرض. قد تطول المعارك وتشتد المعاناة، ولكنها تصطدم مع المستقبل وحقائقه الأساسية وأجياله الجديدة.

 

هنا صلب ظاهرة «حمدين صباحى»: الرهان على المستقبل.. ومصدر قوته التصويتية المفاجئة التى كادت تحسم مقعد الرئاسة هو هذا الرهان بالضبط.

 

قضيته تتجاوز شخصه وظاهرته تتعدى مصيره.

 

الأجيال الجديدة راهنت عليه ورموزها انضمت إليه.. وهذه قضية مستقبل، وأسر الشهداء ومصابو الثورة وثقوا فيه.. وهذه قضية ضمير.

 

كان وجود والدة «خالد سعيد» الشرارة الأولى للثورة بجوار «أحمد حرارة» أيقونتها فى التضحية ضمن مؤيديه ملهما قبل أن يتأكد انضمام أغلب القوة الضاربة فى ائتلافات الشباب، ثم بدا مؤثرا أن القوة الناعمة المصرية بأغلب مثقفيها ومفكريها وعلمائها وفنانيها انضمت إليه، وكانت تلك رسالة واصلة إلى كل بيت ومؤثرة فيه.

 

كانت ظاهرته محدودة فى بدايتها.. لكنها أخذت تكبر من يوم لآخر حتى بدا أنه يمكن أن يحقق ما يسمى بـ«انتصار الانهيار الصخرى»، أو أن يكون ساحقا وسريعا ومدويا.

 

شىء من هذا القبيل حدث لكن دون أن يدفع صاحبه إلى المقعد الرئاسى.. ومما شاع وتردد قبل الاقتراع مباشرة أن «صباحى» فى حاجة لأسبوع إضافى لحسم هذا المقعد كجواد أسود لا سبيل إلى إيقافه.

 

تشكلت بامتداد البلد كله لجانا تطوعية لا صلة لها بحملته، كانت تدفع تكاليف ملصقاته حتى يمكن تدوير الأموال المحدودة فى طباعة ملصقات أخرى. بدت المسألة كلها خارج الحسابات المنظورة. شىء ما كامن وعميق فى المجتمع تحرك ووجد فى خطابه ما يقنع وفى طلته ما يأسر. الحركة تحولت إلى اندفاع والاندفاع إلى قوة تمكنت من أن تنازع على المقعد الرئاسى دون ضخ أموال لشراء أصوات أو اللجوء إلى أساليب غير مشروعة وغير أخلاقية. إنه «الصوت الحلال» على ما وصفه شبان انضموا إلى حملته. كل صوت ذهب إليه كان طوعيا عن اقتناع وإيمان.

 

قوى واسعة رأت فيه خيارا آمنا لانتقال السلطة يجنبها الاستقطاب ما بين مشروعين: مشروع الاستحواذ على مفاصل الدولة الذى تمثله جماعة «الإخوان المسلمين» ومشروع إعادة إنتاج النظام السابق الذى يمثله الحزب الوطنى المنحل ورجال أعماله والمصالح المرتبطة به وقطاعات نافذة فى الأمن والدولة.

 

ما هو كامن وعميق له مصدران رئيسيان ينتسبان إلى ثورتين. المصدر الأول، ثورة يناير وأجيالها الجديدة وتطلعاتها إلى مفارقة الاستبداد والتحول إلى مجتمع

ديمقراطى حر يتأسس على مبادئ العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. انضبط خطابه على مبادئ يناير، شرحها ببساطة ويسر، لغته سليمة وحججه تلازمه، نجح فى اختراق العزلة التى أريد لها أن تفرض على الثورة ومد جسورا مع شعب فقير ومهمش يتوق للعدالة.

 

هنا تجلى المصدر الثانى للقوة الكامنة فى المجتمع.. ثورة يوليو، فمثله الأعلى «جمال عبدالناصر»، لا يسعى إلى تكرار تجربته التاريخية، فالعصور تغيرت، ولكنه يستلهم انحيازاتها الاجتماعية الكبرى، وهو الوحيد الذى صدقه الفقراء عندما تحدث عن حقوقهم المهدرة. فالتجربة التاريخية تسند خطابه وصورة «عبدالناصر» تزكيه.

 

هناك شوق مكبوت للعدالة وتطلع قديم لإنهاء الظلم الاجتماعى. كانت الرسالة واصلة إلى المستقبل فى قضية العدالة الاجتماعية، وتلك القضية تستدعى الالتزامات الواضحة والمصدقة لا موضوعات إنشاء سياسى فى النهضة الموعودة!

 

كانت التجربة التاريخية حاضرة ومؤثرة فى القطاعات الشعبية. لخص خطابه مراجعات فكرية وسياسية داخل التيار الناصرى خلال أربعين سنة: عدالة اجتماعية واستقلال وطنى مع ديمقراطية سياسية وضمانات حقوق إنسان لا سبيل للتفريط فيها أو المساومة عليها.

 

حدث تحول دراماتيكى فى اتجاهات الرأى العام لخصه التعبير السياسى لسائقى التاكسى فى القاهرة.. من الميل العام إلى مناهضة الثورة والشكوى من وقف الحال عند التظاهرات المليونية فى ميدان التحرير إلى التأييد الكاسح لمرشحها

فى انتخابات الرئاسة. إنه الخطاب الجديد بلا استعلاء على المواطن العادى ساعيا إلى إقناعه أن مصلحته فى الثورة وأهدافها.

 

اعتبار العدالة الاجتماعية من الروافع الكبرى لظاهرة «صباحى»، فالاتجاه العام للمشروعين الآخرين يمينى، ولا توجد فوارق حقيقية بينهما فى هذه القضية بالذات.

 

تبنى «صباحى» منحى يساريا زاوج ما بين مواريث يوليو وعدالة الإسلام، يوليو بتجربتها الاجتماعية العميقة مع مراعاة الأحوال والعصور المتغيرة والإسلام بثقافته الوسطية المتسامحة المنفتحة على شركاء الوطن. هذا الخطاب دعا قطاعات كبيرة من الفقراء والمحرومين أن يضعوا أصواتهم فى صندوقه وأن يصفوه على نطاق واسع بـ«مرشح الغلابة»، وهو تعبير كاد يبهت ويغيب عن المسرح السياسى المصرى بميوله اليمينية الواضحة.

 

أحياء فقيرة ومدن كبرى تعد تقليديا من قلاع جماعات الإسلام السياسى منحته أصواتها باكتساح، وهو تصويت عقابى لتلك الجماعات من جماهير محبطة من أدائها السياسى فى البرلمان من ناحية وتصويت لأحلام العدالة الاجتماعية من ناحية أخرى، وهى أحلام تقودها فكرة تلهم: حقوق تؤخذ لا صدقات تمنح.

 

كسب «صباحى» أصواتا تطلب الحق فى الحياة والكرامة والمستقبل دون أن يكون فى حاجة إلى رشى بزجاجات زيت أو أجولة بطاطس، جاءت إليه دون أن يحملها أحد على باصات.

 

كل صوت وصل إليه فيه رهان على المستقبل، وهو رهان أفضت خسارته إلى مشاعر حزن سادت المشهد.

 وهذه مسألة محيرة أن يكون الخاسر فى وضع معنوى وشعبى أقوى من اللذين وصلا إلى حلبة النهاية، كلاهما يعتقد بداخله أنه ليس صاحب حق أصيل فى المنصب الرفيع وأنه وصل إلى جولة الحسم إما بقوة التنظيم وموارده المالية أو بقوة الدولة وأجهزتها الأمنية ورجال أعمال النظام السابق.

 

شعار حملته الانتخابية من ضمن أسباب صعود ظاهرته. هناك من راهن على أنه يقدر على التحدى (عمرو موسى)، أو يستطيع بناء الدولة القوية (عبدالمنعم أبوالفتوح)، أو أنه يحمل مشروعا للنهضة (محمد مرسى)، أو الأفعال قبل الأقوال (أحمد شفيق)..

 

 كلها حاولت بدرجات مختلفة أن تراهن على صورة الرئيس القوى، «صباحى» وحده راهن على المواطن العادى..

 

 وعند فرز الصناديق الأخيرة والأمال المعلقة عليها تعدل على شبكات التواصل الاجتماعى شعاره الانتخابى من «واحد مننا» إلى «حلمنا كلنا». منح الثورة نفسا جديدا وثقة فى النفس وأن صوتها يدوى فى بيوت الفقراء لا على شبكات التواصل الإجتماعى وحدها.

 

هذا بدوره درس عميق فى حاجات المجتمع المصرى، لا يريد خبرة يدعيها أصحابها، ولا يريد كلاما عن نهضة لا يعرف ما هى أصلا، يريد من يحدثه عن

حقوق الفقراء فى هذا البلد، وأن يكون كلامه مصدقا، أن يحدثه كإنسان عنده احتياجاته لا كموضوع انتخابى عابر.

 

المثير فى الظاهرة كلها أن «حمدين صباحى»، وهو شخصية سياسية لها تاريخ طويل يمتد لأربعين سنة، لم يتسن لقطاعات كبيرة من التى انتخبته أن تتعرف عليه من قبل. تمكن فى وقت قصير للغاية أن يحوز ثقتها.

 قدراته على الاقناع أنضجتها السنين. كان مثيرا أن تجد سيدة بسيطة تبيع الخبز على الطرقات ترى فيه «واحد مننا» وهى تنطق اسمه بصعوبة بالغة وتتحسس حروفه حتى تتأكد من أنها نطقته بصورة سليمة.

 

«مدد الله وإرادة الشعب»، هكذا يفسر «حمدين صباحى» بعباراته المتصوفة ظاهرته التى فاجأت الجميع.