حسنا تفعل مؤسسة كيميت بطرس غالى بتكريمها السنوى لشخصيات دولية بارزة بنشاطها السياسى أو الفكرى. فى العام الماضى كان التكريم من نصيب المناضل من أجل الحرية سام نجوما، زعيم جبهة تحرير جنوب غرب أفريقيا (سوابو) وأول رئيس لناميبيا المستقلة. وللعام الجارى كرمت المؤسسة شخصيتين لامعتين هما سالم أحمد سالم، الدبلوماسى التنزانى، ووزير خارجية تنزانيا ورئيس وزرائها الأسبق، والأمين العام لمنظمة الوحدة الأفريقية الأسبق أيضا؛ جورج أبى صعب، علامة القانون الدولى العام، المثقف الموسوعى للعالم الثالث، الذى رفع اسم مصر عاليا فى الدوائر العالمية للقانون الدولى وفى المحافل الدولية، بانتمائه إليها ونسبته لها. حصل على شهادة التوجيهية، حيث كان ترتيبه الثانى على المملكة المصرية، وبعدها درس القانون وتخرج فى كلية الحقوق، جامعة القاهرة، ثم تغرب جورج أبى صعب منذ أكثر من ستين عاما. دَرَّسَ ثم عَلَّم وأسهم فى المحافل الدولية فى تطوير القانون الدولى وتحديثه، ولكنه لم ينقطع قط عن مصر فهو يزورها سنويا مرة على الأقل، وحرص على الاحتفاظ ببيت له فيها، وهو كان سخيا بالنصح الذى كثيرا ما طلب منه، ودرّس فى معهد الدراسات الدبلوماسية، وصار أستاذا شرفيا فى كليته بجامعة القاهرة، واشترك فى التحكيم فى مركز القاهرة، كما مثل مصر فى المؤتمرات الدولية، ولعب دورا حيويا حاسما فى رسم استراتيجية الدفاع المصرية فى قضية طابا وفى اختيار الخبرة الأجنبية الإضافية فى فريق الدفاع المصرى. وكان جورج أبى صعب قريبا من حركة التحرر الوطنى الفلسطينية وقدم لها النصح، وكان من فريقها إبان إصدار محكمة العدل الدولية لرأيها الاستشارى بشأن جدار الفصل الإسرائيلى فى الضفة الغربية، والذى اعتبر فى هذا الجدار انتهاكا من سلطة الاحتلال لاتفاقية جنيف الرابعة. رغم ما سبق ليس موضوع هذا المقال استعراض سيرة جورج أبى صعب وإنما هو محاولة مجرد المرور، وبما يسمح به حيز هذا المقال، على الفكر القانونى للأستاذ المبجل والذى اهتدى به وهداه فى نشاطه الفكرى. المحاولة مسئول عنها كاتب هذا المقال وحده، ومصادره فيها تتلمذ ممتد على جورج أبى صعب، وحوارات عديدة معه ومتابعة له، وهى قراءة لبعض إنتاجه ولجوانب من سيرته الذاتية.
•••
لدى جورج أبى صعب أن النسق الفكرى لأى فرد لابدّ أن يكون مرتبطا بالنسق القيمى. القارئ لجورج أبى صعب يستنتج أن نسقه القيمى يجىء أولا وأنه هو الذى حدد نسقه الفكرى. فى قلب هذا النسق الفكرى مفهوم العدالة. وهو حريص على أن يميز بين العدالة بمعنى تصحيح الخطأ وإنزال العقوبة بمرتكبه، من جانب، والعدالة بمعنى توزيع القيم، أو إعادة توزيعها، بين البشر لكى تتحقق لمجموعاتهم ولهم فرادى ذواتهم، وليلبوا احتياجاتهم المادية والمعنوية، من جانب آخر.
القانون الدولى العام ليس مجرد قواعد تدرس وتطبق. إن كانت هذه القواعد لا تؤدى إلى إرساء العدالة بين البشر ومجموعاتهم الوطنية والطبقية، فإن فى هذه القواعد عوارا. وعلى أى حال، فالقانون، أى قانون، ينظر إليه من خلال ثلاثة مناظير. هو قواعد منفردة، وهو نسق كامل من القواعد المتكاملة، ثم هو هذا النسق الكامل فى تفاعله مع محيطه الاجتماعى والاقتصادى والسياسى. فى حالة القانون الدولى العام هذا المحيط هو النظام الدولى بمجمل قطاعاته الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والعسكرية والسياسية وغيرها. القانون الدولى يتأثر بالتفاعلات فى هذا المحيط، أى فى النظام الدولى، وهو يحاول أن يرسم لها قنوات تحتويها، ولكنه فى حقيقة الأمر نتاج لهذه التفاعلات، أو فلنقل إنه لا مهرب له منها. بهذا المعنى، القانون الدولى العام نظام فرعى للنظام الدولى. البينات على ذلك عديدة فى أنشطة جورج أبى صعب الفقهية والعملية الرامية إلى تفسير قواعد القانون الدولى وتحديثها بما يؤدى إلى تحقيق العدالة بين البشر ومجموعاتهم.
فى فقه القانون الدولى العام كتب جورج أبى صعب مقالة مؤسِسَة نشرها فى المجلة المصرية للقانون الدولى فى سنة 1973 عبّر فيها عن كامل نظرته للقانون الدولى وللوظيفة التى ينبغى عليه الاضطلاع بها فى عهد ما بعد تصفية الاستعمار. جوهر المقالة هو أن الدول حديثة الاستقلال فى وضع ضعيف سياسيا واقتصاديا ومعرفيا وأن القانون الدولى لا بدَ أن يعينها على تصحيح هذا الوضع وعلى رفع مستواها. قواعد القانون الدولى تندرج فى مجالات ثلاثة، المبادئ التأسيسية، وقواعد قانون المعاملات الدولية، وقانون التعاون الدولى. فى السنوات التى سبقت كتابة المقالة حدث تقدم لا بأس به فى صالح دول ما كان يسمى عندئذ بالعالم الثالث فى مجال المبادئ التأسيسية مثل المساواة فى السيادة بين الدول، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول وحظر استخدام القوة أو التهديد بها. أما فى قواعد قانون المعاملات الدولية الذى يهم الدول المتقدمة بشكل خاص لأنها تحكم تعاملاتها العملية المستمرة فيما بينها ومع دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإنه لم يحدث تقدم فى اتجاه هذه الأخيرة. وفى قانون التعاون الدولى، خاصةً ما يتعلق بالقانون الدولى لتنمية بلدان العالم الثالث فالتقدم طفيف. وعلى أى حال فالتقدم، سواء كان يعتد به أو طفيفا، فى المبادئ التأسيسية والقانون الدولى للتعاون، اتخذ شكل قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة غير الملزمة قانونا بينما كُرِّسَت قواعد قانون المعاملات فى اتفاقيات دولية ملزمة. التباين فى الطابع الإلزامى للقواعد القانونية المستحدثة يرجع إلى الهوة الفاصلة بين قوة كل من الدول الاستعمارية السابقة من جانب، ودول العالم الثالث من جانب آخر. إنشاء قواعد القانون الدولى يتأثر إذن بتوزيع القوى فى النظام الدولى، وهو بذلك بينة على سلامة اعتبار أن القانون الدولى هو نظام فرعى للنظام الدولى. فى السنة التالية على نشر المقالة اعتمد النظام الاقتصادى الدولى الجديد وميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية للدول وكان موضوعهما إنشاء البيئة المتيحة للتنمية.
•••
الاستعمار حرّم شعوب البلدان المستعمرة من هوياتها واستغلها فأفقرها وأضعفها ونزح ثمرات إنتاجها بل وأدى إلى التراجع المستمر فى القيمة النسبية لإنتاجها أو ما يعرف بمعدلات التبادل. لذلك، فإن من حق هذه الشعوب أن تقرر مصيرها، فإن قاومت الدول الاستعمارية تقرير الشعوب لمصيرها، فإن من حق هذه الشعوب أن تشن حروبا للتحرير لتحصل على حريتها واستقلالها. بل إن كل المشاركين فى هذه الحروب، المناضلين من أجل الحرية، لهم الحق فى أن يحميهم القانون الدولى الإنسانى. هذا جانب من صلب تفكير جورج أبى صعب وقد نجح فى أن يجعل المجتمع الدولى يأخذ به. فى سنة 1974، عينت الحكومة المصرية جورج أبى صعب، وهو الأستاذ الشاب عندئذ فى معهد الدراسات الدولية العليا فى جنيف، عضوا فى وفدها فى المؤتمر الدبلوماسى بشأن إعادة تأكيد وتنمية القانون الدولى الإنسانى المنطبق فى النزاعات المسلحة، وطلبت منه مجموعة السبعة والسبعين، أى الدول النامية كلها، أن يكون الناطق باسمها فى الدورة الأولى للمؤتمر. نجح جورج أبى صعب ونجحت معه مجموعة السبعة والسبعين فى إدراج حروب التحرير ضمن النزاعات الدولية المسلحة التى تنطبق اتفاقيات جنيف عليها فى البروتوكول الأول الملحق بهذه الاتفاقيات الذى اعتمده المؤتمر.
السبعينيات الأولى من القرن العشرين كانت فترة بدا فيها أن موازين القوى الدولية يمكن أن تسير فى اتجاه مزيد من التعادل، بفعل ارتفاع أسعار النفط فى نهاية سنة 1973، وربما أيضا نتيجة لمأزق الولايات المتحدة فى فيتنام، وتعويم الدولار الأمريكى ووقف مبادلته بالذهب. ولكن ماذا حدث فى الخمسين سنة الأخيرة منذ أن استعرض جورج أبى صعب حالة القانون الدولى فى المجلة المصرية للقانون الدولى واعتمد مؤتمر جنيف البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات القانون الدولى الإنسانى الأربع، وصدر قرارا النظام الاقتصادى الدولى الجديد؟ هل استطاع القانون الدولى أن يدفع بالمجتمع الدولى إلى مزيد من العدالة؟
الرد على لسان جورج أبى صعب هو من نوع علم اجتماع القانون الدولى، مثل كل كتاباته. هو يسترجع تطور النظام الدولى، وخاصة فى قطاعه الاقتصادى، منذ نهاية السبعينيات عند تولى مارجريت تاتشر رئاسة وزراء بريطانيا ثم وصول رونالد ريجان إلى سدة الحكم فى الولايات المتحدة فى بداية الثمانينيات. هاتان الشخصيتان تحولتا باقتصادى بلديهما، وبعدهما بمجمل النظام الاقتصادى الدولى، إلى النيوليبرالية، وأهم إجراءاتها تحرير العلاقات الاقتصادية وتفكيك ضوابطها، وهى من حيث الجوهر التراجع عن سياسات إعادة توزيع الثروة والدخل. المحافظون الجدد دفعوا فى هذا الاتجاه وأرادوا تسيّد السوق على الدولة. ولم يمض عقد من الزمان حتى انهار الاتحاد السوفيتى فاختفى التوازن فى النظام الدولى الذى استفادت منه بلدان العالم الثالث، وزاد الطين بلةً أن اختفاء التوازن أدى إلى تفرق هذه البلدان، وصاحب ذلك صعود الصين وتفردها وابتعادها عن العالم الثالث. أى عدالة يمكن أن يحققها القانون الدولى فى هذا المشهد الدولى؟ النظام الاقتصادى الدولى الجديد لم ينشأ، بل تدهور النظام القديم إلى مزيد من عدم الإنصاف وعدم المساواة بين الدول وفى داخل كل دولة. ومع ذلك يقول جورج أبى صعب أن تقدما قد حدث هنا وهناك، فى فرع القانون الدولى للبيئة مثلا الذى نَمَت قواعدُه وفُصِّلَت، غير أنه يرجع فيقول إن هذا التقدم يتوقف عندما يتعلق الأمر ولو بقدر ضئيل من إعادة توزيع الموارد، فالدول المتقدمة ترفض الالتزام بنقل موارد إلى البلدان النامية لتمكينها من اتخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهة تغير المناخ مثلا. فرض إعادة توزيع الموارد يستدعى وجود سلطة عليا، مثل الدولة فى الأنظمة الوطنية. هذه السلطة ليست موجودة فى النظام الدولى. ومع ذلك فجورج أبى صعب متفائل بطبيعة الجنس البشرى. ما زالت العدالة ممكنة والتقدم فى المبادئ التأسيسية للقانون الدولى قد ترسّخ.
•••
ثراء فكر جورج أبى صعب هائل وإسهاماته برّاقة كفقيه، وكمفاوض، وكقاضٍ، وكمحكم دولى، والفكر والإسهامات كلها ترمى إلى إعانة الضعيف وإرساء العدالة، القيمة الكبرى التى ألهمت فكره ونشاطه كما ورد فى بداية هذا المقال. رشحته مصر، وهو كان عضوا فى كل من المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، وهيئة الاستئناف لآلية تسوية المنازعات فى منظمة التجارة العالمية التى صار رئيسا لها. فى الترشيح شىء من التكريم قابله جورج أبى صعب بالجهد الدءوب، والذهن المتوقد، والتجديد البنّاء.
ليس أفضل لمصر من مصريين يتقنون أعمالهم ويبتكرون فيها ويتخذهم الآخرون أدلة لهم وأمثلة تحتذى. جورج أبى صعب فى صدارة هؤلاء. جزاء ما قدمه لمصر عمليا ومعنويا، وكذلك للعالم العربى والعالم النامى برمته، بل وللتضامن بين البشر، هو يستحق من بلده أعظم آيات التكريم.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة