بأى لغة يكتب الأدب؟ - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 14 نوفمبر 2024 7:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بأى لغة يكتب الأدب؟

نشر فى : الأربعاء 28 أغسطس 2024 - 7:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 28 أغسطس 2024 - 7:05 م

  كان يُعتقد إلى وقتٍ قريب أن للأدب لغة واحدة توصف بأنها اللغة الأدبية. وفى الواقع، يعسر الإلمام بكل ما قيل فى خصوص هذه اللغة، لكن الأفكار المسبقة فى شأنها كثيرة، ومنها أنها لغة يُصرّف فيها الكلام على غير التصريف العادى، وتستمد جماليتها الرفيعة من سموها عن التعابير اليومية التى يتداولها الناس فى البيوت والأسواق، وتتميز بالجزالة والفخامة وعلو الكعب معجما وتركيبا وبلاغة. غير أن ظهور نمط جديد من الكتابة الأدبية يمزج الفصيح بالعامى، أو يقتصر حصرا على العامية، نبّه إلى أن علاقة الأدب باللغة التى يُكتب بها فى حاجة إلى مزيد من التدبر، ولاسيما وقد شاعت فى أسواق القراءة مؤلفات ذات حظوة لدى نسبة محترمة من القراء، على الرغم من أنها مكتوبة باللسان اليومى الدارج.

تُثير هذه المؤلفات، ولاسيما الروائية منها، جدلا مستمرا فى الوسط الثقافى. ومأتى الجدل الحَرَج الذى تجده فئة من القراء من الجمع بين أدب/ عاميّة، إذ غالبا ما يستشعر التنافر بين هذين المفهومين كأنهما لا يحضران فى الضمير الجمعى إلا كحضورِ المتضادات.

لهذا السبب، نعتقد أن كل نقاش حول علاقة الأدب باللغة ينبغى أن ينطلق من رفع الأوهام الشائعة بخصوص كليهما. فمن اللازم أن نتفق بدءا حول ماهية الأدب، فهل إن كل ما يُطبع فى المطابع ويَخرج إلى السوق فى محمل ورقى تحت مسمّى رواية أو شعر هو حقا من الأدب؟ ثم ما هى وظيفة الأدب؟ وما مجاله الحيوى؟

 •  •  •

إذا استطاع المختصون فى عِلم الأدب أن يضبطوا أجوبة نهائية عن هذه الأسئلة كان علينا، من منطلق الاختصاص اللّسانى، أن نلتفت بدورنا إلى اللغة تعريفا وتصنيفا؛ فهل اللغة هى اللغة الرسمية فحسب؟ هل هى اللغة المُشتركة التى تتكلم بها الجماعات المليونية أم هى أيضا الدّارجات المتفرعة عنها والخاصة بالمجموعات اللّسانية الصغرى؟ وما القيمة العلميّة للتمييزات الشعبية بين عربية فصحى وعربيّة فصيحة ودارجة وعاميّة؟ وهل يفضُل أى من هذه الأصناف سائرها؟

لا تنفك اللسانيات تُذكّر بأن التعدد فى دارجات لسان ما علامة صحية، ودليل على قوة ذلك اللسان وانتشاره، وميزة تؤهله لأن يكون حاضرا من ضمن الألسنة القليلة التى ستنجو من الانقراض فى الألفيّة المُقبلة. ولذلك، فإنّ الخطابات التى تدين استعمال الدّارجات المحلية بدعوى أنها خطر على العربيّة المُشترَكة (المسماة شعبيا فصيحة) هى خطابات انفعالية يعوزها الاحتكام إلى منطق العِلم، وأن العربية المشتركة لا تَفضِلها بشىء عدا بمقدار الانتشار. من هذه الناحية تحديدا يُمكن أن تُطرح علاقة اللغة بالأدب من جهة مجاله الحيوى ووظيفته الحضارية؛ فإذا كانت الدّارجة فاعلة فى مجال جغراسياسى ضيق نسبيّا، فإن للأدب مجالا أرحب كلّما كان منتوجه ذا أبعاد إنسانية ومرشّحا للخلود.

•  •  •

كيف تُستخدَم الدّارجات فى الرواية العربية؟ فى العموم، يُمكننا أن نُميز فى الرواية مثلا بين ثلاث نزعات كبرى متعلقة باللغة المُستعملة فى الممارسة الأدبية: نزعتان حدّيتان ترفض أولاهما أن تَصل إلى الأدب رائحة المعجم العامى، بينما تَقتصر الثانية على العامية بالكلية وتقوم على العدول المُطلق عن اللسان المشترك. أما النزعة الثالثة، فوسطية، تُحاوِل إيجاد صيغ تعبيرية توفّق بين حاجة الأدب إلى الانتشار من ناحية، بما يفرضه ذلك من التزام بالعربية المُشتركة، وحاجته، من ناحية أخرى، إلى التصبغ بالروح المحلية التى تقويها العامية.

الطريف أن المقارنة بين النزعتين الحديتيْن تُنبهنا إلى أنهما تتنازعان حجتيْن رئيسيتيْن وتشتركان فيهما اشتراكا يستند إلى المغالطات نفسها، ولكن فى اتجاهيْن مختلفيْن؛ فالمدافعون عن استعمال الدارجة فى الأدب يُعلّلون اختيارهم بـ:

أولا: متطلبات الحفاظ على الهوية وما تفرضه من اعتزاز بالخصوصية المحليّة وإبرازٍ للشخصيّة الوطنيّة.

ثانيا: بما فى الدّارجة من طاقة تعبيرية تفتقر إليها العربية المشتركة التى توصف بأنها لغة ذات تكلّف وبعيدة عن حرارة الشعور وصدقه.

ثالثا: مقتضيات الهوية والاعتزاز بالقومية ومحاربة النزعات الانفصالية واجتناب كلّ ما فيه انحصار وتضييق وانطواء على الذات.

رابعا: كل حطّ من قيمة اللسان الدارج مرفوض علميا، وهو منبئ عن جهل بأساسيات قيام الألسنة وبأساسيات دورها الثقافى والحضارى.

خامسا: لا سبيل للحفاظ على العربية لسانا قويّا وفاعلا فى مجاله الحيوى إلا بالحفاظ على درجاته وصوْنها من الاندثار.

سادسا: لا تفاضل بين «العامية» و«العربية»، فالأولى دارجة محليّة والثانية دارجة مُشتركة، وكلتاهما فصيحة، وكلتاهما بليغة شريطة أن يكون المتكلّم بهما فصيحا وبليغا.

•  •  •

أما المعارضون لاستعمال الدارجة فى الأدب فيقدمون أيضا: وقد بَيّنا المُغالطات التى يقوم عليها التصوران من جهةِ المُفاضلة بين اللسان المشترك ودارجاته المحلية، ولا نظن أننا نقدّم جديدا إذا ذكّرنا بالمبدأ اللّسانى الذى صاغه فيلسوف اللغة جون سيرل صياغة بديعة ومفاده أن «كل ما يمكن أن يعنى يمكن أن يقال». يُبرز هذا المبدأ البُعد الفلكلورى فى العبارات من قبيل «تعجز اللغة عن التعبير/ هذا ممّا تعجز اللغة عن وصفه... إلخ». ذلك أن اللغة، سواء كانت فصيحة أم عامية، مشتركة أم دارجة، بعيدة عن العجز كل البعد، وإن كان هناك من عجز فهو من المتكلم لا غير. وعليه، فإنه لا مُفاضلة بين الطاقة التعبيرية للعربية المشتركة والطاقة التعبيرية للدارجة التونسية مثلا، وإنما المُفاضلة بين من يُحسن التأدية بإحداهما ومن لا يحسن ذلك.

أما مسألة الهوية فمحسومة، لأن الدفاع عن الشخصية الوطنية على سبيل المثال، ليس مسألة تعبيرية متعلقة بقناة التواصل وإنما هى جملة من الموضوعات المطروقة والعوالم المبنيَّة سرديا أو شعريا. وما يصدق ردا على أصحاب إحدى النَزعتيْن يبقى صالحا أيضا للرد على أصحاب النزعة المقابلة.

•  •  •

من خلال تجربتى روائية ولسانية فى الوقت نفسه، يُمكننى أن ألخص موقفى من الجدل القائم فى هذه النقاط الموجزة:

أولا: حاولت فى كتاباتى الروائية أن أترجم مواقفى اللسانية هذه عمليا فى اللغة التى أكتب بها نصوصى. من ذلك أنى التزمت بالعربية المُشتركة قناة للتعبير إيمانا منى بمسئولية الكاتب فى إثراء الإسهام الحضارى العربى فى الثقافة الكونية. فلا قيمة للمرء خارج أمته، ومن يعرف عالميا خارج لسانه لن يندرج أبدا فى ثقافته. لقد فعل الفرس المستحيل كى يرجعوا إليهم سيبويه وابن سينا، ولكنهما إذ كتبا بالعربية صارا ابنىْ الثقافة العربية، ولست أريد لنفسى موقعا عدا موقع المشدود إلى عروته، وعروتى هى اللغة العربية.

ثانيا: تتضمن العربية مستويات، أحاول التنويع بينها تماشيا مع أنماط العوالم وانسجاما مع خصائص الشخصيات، وأجد متعة كبيرة فى حقْن النص بشىء من الدارجة التونسية كلما بدت لى الدارجة أقرب إلى الغرض وأوفى بالقصد. ثالثا: غالبا ما يقع تطعيم النص بالعامية على صورة عفوية.

فى العموم، أحسب أنى أحاول أن أكتب بعربية مُعاصرة حديثة، قريبة العبارة، سهلة المركب، تُحبب إلى القارئة أو القارئ لغته ولا تُنفره منها، وتُراهن على أدب يعيش بعد صاحبه وينتشر خارج رقعته ويطير إلى رحاب الثقافة الإنسانية.

 

أميرة غنيم

مؤسسة الفكر العربى

النص الأصلى:

https://bitly.cx/Yo5zM

 

التعليقات