مرت مصر فى عصرها الحديث بأنظمة سياسية واقتصادية متنوعة؛ ملكية من 1922 وحتى 1953، تميزت بنظام اقتصادى يعتمد على آليات السوق الحرة مثل المملكة المتحدة حيث كانت مصر محمية بريطانية، لم يكن يتبع أى أجندة سياسية رغم تعدد الأحزاب، كان النظام الاقتصادى ليبراليا ومستقلا، ومتوافقا أيضا مع النظام السياسى الليبرالى، فكانت السياسات الاقتصادية لمصلحة الاقتصاد دون أى توجه سياسى، ولهذا كان الجنيه المصرى أقوى من الجنيه الذهب!
بعد ثورة 23 يوليو 1952، تحولت الملكية إلى جمهورية من 1953 وحتى اليوم؛ إلا أن الجمهورية المصرية فى فترة السبعين عاما لم تكن تسير على نهج واحد، سواء سياسيا أو اقتصاديا، ولكنها مرت بعدة جمهوريات، تميزت فترة حكم كل رئيس بجمهورية خاصة به!
• • •
كانت الجمهورية الأولى برئاسة اللواء محمد نجيب، قائد حركة الضباط الأحرار التى أطاحت بالملك فاروق 1952، وبناء على إعلان دستورى صدر من مجلس قيادة الثورة فى يونيو 1953، عين محمد نجيب رئيسا للجمهورية حتى نوفمبر 1954، لمدة عام ونصف تقريبا، ولم تكن لفترة حكمه أى تغيرات حقيقية سياسيا أو اقتصاديا، ثم عزله المجلس من منصبه، وتولى البكباشى (مقدم) جمال عبدالناصر جميع سلطاته.
كان ذلك حتميا لوجود فوارق كثيرة بين محمد نجيب وبين أعضاء حركة الضباط، من أهمها فارق السن الكبير بين نجيب الذى كان يبلغ آنذاك أكثر من خمسين عاما، وبين بقية الأعضاء الذين كان يبلغ أكبرهم خمسة وثلاثين عاما، فضلا عن التكوين الأكاديمى والفكرى، فكان نجيب أول ضابط فى الجيش المصرى يحصل على ليسانس الحقوق 1927، ثم دبلوم الدراسات العليا فى الاقتصاد السياسى 1929، ودبلوم الدراسات العليا فى القانون الخاص 1931، بينما كان كل الضباط الأحرار تكوينهم عسكرى صرف، إلا القليل منهم الذين كانت لهم خلفية سياسية لانتمائهم لبعض الأحزاب مثل جمال عبدالناصر وأنور السادات، كما كانوا جميعا تجرى فى دمائهم ثورة الشباب، فكانت قراراتهم بين حماسية وحاسمة حتى لو تعارضت مع الدستور الذى صاغوه فى 1956!
فى يونيو 1956، عين عبدالناصر رئيسا للجمهورية الثانية، بناء على استفتاء شعبى؛ كانت ميوله اشتراكية، فكان انحيازه لطبقة الفقراء واضحا، ومن أهم ما يثبت ذلك تأسيسه للاتحاد الاشتراكى ــ الحزب الوحيد ــ الذى حكم البلاد، وكانت من أهم ملامحه السياسية نسبة الـ50% للعمال والفلاحين فى البرلمان، وعليه كانت كل السياسات الاقتصادية للبلاد تنطلق من هذا التوجه: قانون الإصلاح الزراعى، والتعليم المجانى، وقانون العقارات (الإيجارات القديمة)، والقوانين الاشتراكية ومن أهمها التأميم، وتحديد الملكية، وإلغاء النظام الرأسمالى كلية، فتم تحديد الأنشطة الاقتصادية الفردية التى تسببت فى إلغاء الحافز الشخصى، وعليه تراجع النشاط الاقتصادى الفردى لصالح النشاط الحكومى مثل القطاع العام.. وكانت من أهم مفردات هذا العصر: التسعيرة الجبرية، والدعم، وتعيين الخريجين من القوى العاملة...إلخ.
• • •
بعد وفاة الرئيس عبدالناصر 1970، عين نائبه أنور السادات باستفتاء شعبى ــ مثل عبدالناصر ــ وكانت توجهاته السياسية مختلفة تماما عن توجهات سلفه؛ تحول من الانتماء للمعسكر الاشتراكى وعلى رأسهم الاتحاد السوفيتى إلى المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة التى اعتقد أن بيدها 99% من خيوط الحل فى قضية الشرق الأوسط، ورغم أن السادات كان يعلن دائما أنه يسير على خطى عبدالناصر إلا أن النكتة الشعبية فسرت هذا بأنه كان يمشى عليها بأستيكة، فكانت الجمهورية الثالثة، ومن هنا ربط السياسة الاقتصادية بالتوجه السياسى الجديد، وكانت من أهم مفردات هذا العصر «الانفتاح الاقتصادى»، فكان طبيعيا أن يفرز طبقة رأسمالية جديدة خاصة مع غياب رؤية واضحة للسياسة الجديدة التى اعتمدت على استيراد السلع المستهلكة، وليس على السلع المنتجة المساعدة على تنمية المنتجات المصرية!
وفى غياب قوانين صارمة تحمى الطبقات المتوسطة والفقيرة، توحشت الطبقة الجديدة، وكونت ثروات كبيرة دون أن تفيد اقتصاد البلاد بشكل فعال، فعادت من جديد الفوارق الطبقية، وحولت أفراد المجتمع إلى مستهلكين غير منتجين، وسميت الطبقة الجديدة بـ«القطط السمان»، وتحول الانفتاح إلى «سداح مداح»، سيطر فيه رجال الأعمال والمحسوبيات على اقتصاد البلاد، وحدث تزواج بين السلطة والمال، هذا ما أفرزته الجمهورية الرابعة ــ لمدة ثلاثين عاما ــ بقيادة حسنى مبارك الذى ورث الحكم أيضا باستفتاء شعبى باعتباره نائبا للرئيس السادات الذى قتل 1981، وفى أثناء هذه الفترة كادت الجمهورية تتحول «لجمهوملكية»، وعليه كانت السياسات الاقتصادية موجهة لخدمة تحول السلطة من ميراث «مهنى» إلى ميراث بـ«الدم»، والذى سقط بفضل ثورة 25 يناير 2011، وانحياز الجيش لها!
• • •
لسنا فى هذا المقال بصدد تقييم الأربع جمهوريات الأخيرة برؤسائها، لأن بها موضوعات متفرقة، وتحتاج لمعلومات دقيقة ورسمية لم يفصح عنها حتى اليوم، رغم مرور أكثر من خمسين عاما على كثير من أحداثها، وهى الفترة التى يجب الكشف عن وثائقها السرية لتقييمها بشكل موضوعى، ولكن نذكر ذلك لنوضح التوجه السياسى الذى قاد السياسة الاقتصادية للبلاد والعباد.
إذن، كانت الجمهوريات كلها وراثية من رئيس لنائبه دون انتخابات تسمح للشعب بالاختيار مثلما هو معروف فى مفهوم «الجمهورية»، كما سقط النظام الجمهورى كلية عندما استولت على الحكم «جماعة دينية» يتعارض فكرها مع الدستور الذى يمنع خلط الدين بالسياسة، لأن «الجمهورية» ليست لها عقيدة دينية، حيث أن الحكم فيها للشعب، شرط ألا يتعارض أى قانون فيها مع الشريعة الإسلامية ــ كما ينص الدستور فى مادته الثانية ــ ونذكر على سبيل المثال أنه لا يسمح بتشريع يحلل زواج المثليين كما يحدث فى جمهوريات أوروبا؛ ومن بعد ذلك ولدت الجمهورية الخامسة التى وعدت بأن تتميز بالليبرالية السياسية والاقتصادية التى أرست قواعدها ثورتا 25 يناير و30 يونيو، وفرضت انتخاب الرئيس من بين عدة مرشحين.
ظهرت هذه الثمرة فى الانتخابات الأخيرة (2023/2024)، وقد شهد لها الجميع من الداخل والخارج بنزاهتها، وربما لا يؤخذ عليها سوى أن فترة الدعاية لها كانت قصيرة جدا بما لا يتناسب مع أهمية المنصب، كما أن من وجهة نظرنا المرشح الفائز بنسبة 99% ليست له أفضلية على المرشح الذى يحصل على 51%، ولعل حصول الفائز على نسبة 89% تعتبر ظاهرة جديدة تبشر بتطور فى المرات القادمة.
• • •
كان الشأن الاقتصادى من أهم التحديات التى ناقشها المرشحون: الديون والتضخم ونقص العملة الأجنبية.. فكانت معظم الانتقادات تشير إلى اختلال فى فقه الأولويات، رؤية هذه الفئة أن الأموال لو أنفقت على قطاعى التعليم والصحة لكان مردودها أفضل من الطرق والمدن الجديدة، وكان الرد عليهم بأن البلاد استمرت لمدة طويلة دون بنية تحتية تعيق أى تطور أو تنمية، فضلا عن أن العشوائيات كانت تمثل بؤرا تهدد سلامة وأمن المجتمع، ولم يتحدث أحد عن كيفية القضاء على النقص الحاد فى توفير العملة الصعبة!
أصيب الاقتصاد المصرى بالنقص الحاد للدولار بعد مرور العالم بنكبتين: الأولى لم تمر بها البشرية طوال تاريخها الحديث والقديم، وهى جائحة كورونا التى شلت الحياة بأكملها فى كل بقاع الأرض، والثانية حرب روسيا/أوكرانيا، وكان من أهم نتائجهما انخفاض التنمية على مستوى العالم، وإصابة اقتصاديات العالم بـ«التضخم» الذى كان من أسوأ نتائجه على مصر هروب الاستثمارات الأجنبية، وسحب الأموال الساخنة باحثة عن فوائد عالية فى الولايات المتحدة لمعالجة موازنتها من آفة التضخم!
يرى المتخصصون أن وجود سعرين للدولار يمثل أكبر تحد للمسئولين عن السياسة النقدية، ولكننا نرى أن هذه الأزمة ليست جديدة على مصر أو غيرها من البلاد، ونرى أن ربط الشأن الاقتصادى بأجندات سياسية يعد أكبر خطأ، فالجمهورية الليبرالية الجديدة لا يجب أن تعيق التنمية الاقتصادية الحقيقية، فكما أن الدين لا يجب أن يتدخل فى السياسة، أيضا لا يجب أن يرتبط الاقتصاد بالسياسة، فعلى سبيل المثال، لا يصح تأجيل معالجة الأزمات الاقتصادية بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو المحلية أو أى أجندة سياسية أخرى، وقد تبين هذا الضرر عندما تأخر المسئولون عن السياسة النقدية لتعويم الدولار، فاستفحلت الأزمة!
ويقصد بالتعويم تحرير سعر العملة، أى يترك الأمر للقاعدة الحاكمة فى عالم الاقتصاد: «العرض والطلب»، وكما يدل المسمى أن تكون العملة مثل خشبة فى وسط المحيط فهى تعوم وتتلاطم مع الموجات صعودا وهبوطا، ولكنها من المؤكد لن تغرق أبدا، أما إذا تدخل أحد ليتحكم فى مسيرة الخشبة فهى ستغرق حتما، هذا بالضبط ما يحدث للدولار، فإن أى تدخل فى سعره ــ سواء بالنقص أو الزيادة ــ من جانب الحكومة سيزيد من أزمته؛ وهذا ما يسمى بالـ«تسعير» الذى يتناقض مع مفهوم السوق الحرة، ويخلق السوق السوداء.
وبهذا لن تحدث فجوة بين السعر الرسمى وبين السعر الحقيقى، وقد حدث هذا فى التعويم الأول 2016، ارتفع الدولار من سبع إلى عشرين جنيها، ثم أخذ فى التعافى ليصل لـ16 جنيها، وقضى على السوق السوداء، واحتفظت مصر بكل موارد العاملين بالخارج التى هربت الآن لوجود سعرين متفاوتين تفاوتا كبيرا!
بالطبع مع تعويم الدولار ستحدث موجة جديدة من التضخم تثقل كاهلا كبيرا على الطبقات الوسطى والفقيرة، وهذه علاجها معروف، أن تقدم الحكومة حزمة من المساعدات لهما تتناسب مع نسبة التضخم، وكذلك رفع الفوائد البنكية ليمتص التضخم، ويقل الطلب على الدولار، وبهذا تعود عائدات العاملين بالخارج التى وصلت إلى حدها الأدنى، فيسترد البنك المركزى ما لا يقل عن 35 مليار دولار، وتعود الاستثمارات الأجنبية، وهذا كله فى سبيل عودة عجلة الإنتاج الذى يحتاج بشدة للعملة الصعبة!
• • •
هذه رؤية بسيطة عرضنا فيها أضرار ارتباط الاقتصاد بأجندات سياسية، فى دولة تعتمد على السوق الحرة، وضرورة تصحيح أولوية الإنفاق، فيكون للتعليم ــ قاطرة التنمية ــ الأولوية الأولى، وكذلك كيفية توفير العرض من الدولار، فالاقتصاد لا يقبل تدخلا من الأجندات السياسة تتحكم فيه، وهكذا يكون تعويم أو تحرير الدولار ضرورة للقضاء على السوق السوداء، وبالتالى دفع عجلة الإنتاج التى ستضبط مع الوقت سعر العملة الصعبة!