خنازير قديمة .. وأخرى جديدة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 1:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خنازير قديمة .. وأخرى جديدة

نشر فى : الأربعاء 29 أبريل 2009 - 5:28 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 أبريل 2009 - 5:28 م

 عام 1983 صدر كتابى الأول «الآتى» عن دار الفتى العربى، وهو الكتاب نفسه الذى أعادت نشره فى العام الفائت دار «الشروق»، بنفس الصورة التى ظهر بها منذ ربع قرن، وبرسوم الفنان الكبير الراحل حامد ندا، وفى هذا الكتاب ثلاث أقاصيص، إحداها لا تتجاوز خمسين كلمة، عن عالم مقالب الزبالة، وهى من هوامش الدنيا التى كنت شغوفا بارتيادها منذ أيام الفضول المبكرة، ولم أكن أدرى أن هذا الشطح فى هوامش الدنيا سيكون البنية الأساسية للكاتب الذى سأكونه، وسيكون الضوء الكاشف لخبايا المتن. المهم، هناك أقصوصة بعنوان «الخنازير»، عدد كلماتها 299 كلمة، أحب لو أستعيدها معكم بمناسبة انفجار وباء إنفلونزا الخنازير. وهى قصة مستلهمة من طقس يومى فى هذه الحظائر يسمونه «علقة التسمين»، فلابد من ضرب الخنازير يوميا لتلبيس دهنها فى اللحم قبل ذبحها، فتباع بسعر أعلى. وأتذكر أن هذا الطقس رأيته أكثر من مرة فى مزرعة للخنازير على هامش مدينة المنصورة، فى منطقة مقلب القمامة القديم التى تحولت إلى ضاحية سكنية، ومجزر آلى! وكانت هذه الحظيرة لأسرة عنقودية من الزبالين عميدها اسمه أحمد. فصناعة الزبالة، بما فيها الخنازير، صناعة تستخرج الذهب من النفايات، والذهب لا دين له ولا لعابديه. وهذا نص القصة:


وأنا صغير أجوب الخلاء، أكتشف أننى فجأة فى مواجهة حظيرة للخنازير.
هاكم سورها:

دائرة من رقع الصفيح الصدئة المتباعدة أنقرها بطرف سبابتى فتمتلئ بالثقوب تقوم على جذوع أشجار قميئة ميتة، وعروق خشبية نخرها السوس. لكن يبدو أن الخنازير لا تريد الخروج، فهى لا تنطح هذا السور الهش، لينهار، وهى لا تتسلل خلال فجواته الكثيرة، لتنطلق.

وهاكم الخنازير:

أُبصرها فى ازدحام شديد، برغم انفساح المكان، تمشى متلكئة بليدة تتلاطم أجسامها البرميلية تلاطما مكتوما لاتعبأ به، وأبوازها تعمل فى الأرض الزلقة. فأعجب لكونها تأكل من حيث تدوس، وتمضى، وتنام. تأكل القمامة، وتظلها غيوم الذباب.

وهاكم الراعى:

يدخل رافسا باب الحظيرة المتهالك، مُربّد الوجه فى يده العصا.

وهاكم الخنازير والراعى فى جوف الحظيرة:

يفرقع الراعى بلسانه على سقف حلقه، فتسمع الخنازير، تأتى متسارعة تتلاطم، تتحسس قدميه بأبوازها، وهى تنتظر عطاياه من القمامة، لكن الراعى فجأة يمسك بأحد الخنازير من ذيله، وينهال عليه بالعصا، فيجرى، ويلاحقه الراعى بالضربات فى مسار دائرى، وفى مسار دائرى قليلا قليلا يعتقه.

يظل يجرى الخنزير المضروب حتى بعد أن تتوقف الضربات فى دائرة. وهو كلما مس خنزيرا فى طريقه يتبعه الأخير، وتتشكل حلقة باتساع فسحة الحظيرة كلها. حلقة متصلة من الخنازير التى تجرى، دونما هدف، غير أن كل خنزير يخشى أن يكون الخنزير الجارى أمامه فارا من خطر داهم، فهو يتبعه بالفرار.

ثم أرى راعى الخنازير يذهب، ويُحضر لنفسه مقعدا، ويعود ليجلس بالقرب من حلقة الخنازير الدوارة، والعصا فى يده.

إنه وهو جالس يهوى بعصاه، دون أن يصوب، فيضرب على هذا النحو كل الخنازير التى تقدم نفسها للعصا، وهى تجرى، مطأطئة، عمشاء.

انتهت القصة المكتوبة قبل ربع قرن، لكننى أرى أن هناك امتدادا غريبا لها الآن، فلم تعد مقالب الزبالة مُطوَّحة خارج المدن، فى الهوامش، بل صارت مقالب الزبالة داخل المدن، فى المتن. أما الخنازير، فأرى الكثير منها يجلس على كثير من المقاعد، وفى يد كل منهم عصا، والناس فى زحامهم الخانق يجرون أمامهم فى حلقات دوارة عجيبة، كل منهم يجرى لمجرد أنه يظن أن من يجرى أمامه يفر من خطر داهم، فيقدِّمون على هذا النحو أنفسهم لضربات العصى، مهرولين فى طأطأة عمشاء.

فليس غريبا أن تهيج فى هيجاء هذه الطواحين العمياء، إنفلونزا طيور أو خنازير أو حمير. وليس غريبا أن تشتعل فى هذه الهوجة، صيحات لا تستند إلى أى رؤية طبية وقائية، ولا حتى بيئية، تنادى: «الذبح الذبح، الإبادة الإبادة». صيحات لا تتحسب لبحيرات الدم وجبال النفايات المتخلفة عن ذبح وإبادة نصف مليون خنزير، فى القاهرة الكبرى وحدها. وهى بيئة توفر مرتعا خصبا لأوبئة فتاكة على قائمة الانتظار. ناهيك عن وباء ما تخفيه نوايا التعصب الذميم، ويروج تسويقه فى حومة إنفلونزا الخنازير.
وليساعدنا الله على كل الخنازير.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .