«الرفاق الأعزاء».. الكشف عن فصل مظلم آخر من التاريخ السوفيتى - خالد محمود - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الرفاق الأعزاء».. الكشف عن فصل مظلم آخر من التاريخ السوفيتى

نشر فى : الثلاثاء 29 ديسمبر 2020 - 8:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 29 ديسمبر 2020 - 8:00 م

قد يأسى التاريخ علينا مرتين، مرة عندما نعيش ظلال حادث كبير مؤلم فى الواقع، ومرة أخرى عندما نشاهد تجسيد هذا الحادث على شاشة السينما، حتى لو كانت محاولة لتضميد الجراح وتطييب الخاطر بمحاكمة رمزية للجناة، وقد يوجعنا المشهد بذكراه حتى ولو لدقائق محدودة.
دون شك يبقى للسينما الروسية مذاقها الخاص فى طرحها للقضايا المتشابكة بين المجتمع والسياسة، خاصة فى إعادة قراءتها لوقائع محددة، وفى فيلمه الأخير «أعزائى الرفاق» يقدم المخرج الروسى الشهير أندريه كونشالوفسكى فصلا مظلما آخر من التاريخ السوفيتى، دراما تاريخية يحاكم فيها ما جرى فى قصة مذبحة إضراب عمالى فى مدينة نوفوشيركاسك جنوب اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية فى يوم 2 يونيو عام 1962، عبرمزيج رائع من الهجاء الأسود وصورة لواقع يائس فى خضم أوضاع قاسية.
يلتقط المخرج أنفاس اللحظات التى سبقت، وفى أثناء، وما بعد تلك المذبحة مباشرة، وهى مذبحة حقيقية، ضحاياها عمال مصنع ديلى المحلى للسيارات الكهربائية الذين أضربوا بسبب الظروف المعيشية المتدهورة للأمة وارتفاع الأسعار فى المواد الغذائية، يثور العمال وينضم إليهم سكان المدينة ليصل عددهم إلى نحو 5 آلاف شخص فى مواجهة مع السلطة، ويتم قمع المظاهرة بسرعة ووحشية من قبل وحدات الجيش التى أرسلتها الحكومة، ولقى أكثر من 20 شخصا من بينهم مارة بالشوارع مصرعهم نتيجة إطلاق النار بالقرب من مبنى إدارة المدينة، كما أصيب 90 آخرون وفقا للرواية الرسمية للأحداث، ولكن لا يزال العدد الحقيقى للضحايا غير معروف، ويعتقد الكثيرون أنه أكبر بكثير من البيانات الرسمية.
فى سيناريو مركب بأحداثه والذى كتبه المخرج مع إيلينا كيسيليفا يقدم لنا من قلب الأحداث شخصية «ليودميلا» التى التى لعبت دورها «جوليا فيسوتسكايا»، العضوة المتعصبة والمخضرمة فى الحزب الشيوعى الحاكم، فهى من أشد المؤيدين للنظام تؤمن بصدقه ومثله العليا وتحتقر أى شكل من أشكال المعارضة بل وتطالب بإعدام المحتجين، حتى شاهدت إطلاق النار على المتظاهرين من قبل وحدات الجيش التى أرسلتها الحكومة لقمع الإضراب، وهنا تتغير رؤيتها للعالم إلى الأبد، ونرى المدينة ممزقة بسبب أعمال الشغب، والاعتقالات، والإدانات المتسرعة، وبسبب حظر التجول، وإصابة العديد من الأشخاص وفقد آخرين، وواحدة منهم هى سيفيتكا «يوليا بوروفا» ابنة ليودميلا التى تختفى وهى المتعاطفة مع المتظاهرين وسط فوضى التظاهرات، هذه لحظة حاسمة ترى أن قناعات ليودميلا التى لم تتزعزع ذات يوم بدأت تفقد الاستقرار، وتبدأ فى رحلة بحث حزين ويائس مهما كان الخطر عن ابنتها، وذلك على الرغم من الحصار المفروض على المدينة والاعتقالات المتصاعدة ومحاولة التستر من قبل السلطات.
«الرفاق الأعزاء» هى العبارة الأولى فى خطاب كانت تستعد لإلقائه أمام أعضاء الحزب الشيوعى، بهدف فضح «أعداء الشعب»، لكن ليودميلا لا تجد القوة لإلقاء هذا الخطاب، حيث تمر بأصعب دراما شخصية، وهو ما يجردها من التزامها الأيديولوجى.
ونرى عبر عدة مشاهد متتالية كيف تمزقت المدينة بسبب أعمال الشغب والاعتقالات والإدانات المتسرعة وحظر التجول، وأصيب الكثير من الناس وفقد العديد منهم، حيث تتطاير الدماء والأجساد فى لقطة طويلة فوضوية، ويلوحون بلافتات لينين ويرددون الشعارات القديمة، تبرز براعة المصور السينمائى أندرى نايدنوف فى تصوير أجواء هذه اللحظة المأسوية فى التاريخ السوفيتى، ودفن الضحايا سرا فى قبور بأسماء مستعارة حتى لا يمكن العثور عليهم أبدا، وكان المشتبه بهم الرئيسيون من بين كبار المسئولين السوفييت قد لقوا حتفهم فى ذلك الوقت ولم تتم إدانة الجناة.
وظلت تلك الأحداث مخفية حتى أوائل التسعينيات، بعد مرور عقود من الصمت الذى فرضه النظام السوفيتى، والذى أجبر الضحايا الباقين على قيد الحياة على توقيع اتفاقيات عدم إفشاء وبدأ التحقيق فيها عام 1992.
وقد لجأ المخرج إلى اللونين الأسود والأبيض فى صورة مذهلة بصريا، وهو ما يعزز رؤيته لتلك اللحظة التاريخية الخاصة للغاية.. لقد أراد إعادة بناء الأحداث التى حدثت بالفعل بأقصى درجات الدقة، والعصر الذى كشف فيه التاريخ عن فجوة لا يمكن سدها بين المثل الشيوعية والواقع المأسوى للحقائق، وذلك بوجه إنسانى، حيث صور بواقعية ورؤية شفافة، قمع المذبحة، بينما تُجبر الممرضات اللاتى يقمن برعاية الجرحى على توقيع اتفاقيات عدم إفشاء من قبل عملاء KGB مجهولى الهوية ويتم قتل المنشقين فى الشوارع.
دون شك اعتبر هذا الفيلم ــ الفائز بجائزة لجنة تحكيم مهرجان فينيسيا ــ تكريما لنقاء ذلك الجيل وتضحياته والمأساة التى عاشها مع انهيار أساطيره وخيانة مُثله حيث أراد أندريه كونشالوفسكى، بحسب شهادته، صنع فيلم عن جيل والده، ذلك الجيل الذى قاتل فى الحرب العالمية الثانية ونجا منها بقناعة لشرف الموت من أجل الوطن، ومن أجل ستالين وثقة غير مشروطة بأهداف الشيوعية، خلق مجتمع جديد من خلال جهود الملايين من الناس، مؤكدا أنه كان يرغب فى إعادة بناء الأحداث التى حدثت بالفعل بأقصى درجات الدقة، والعصر الذى كشف فيه التاريخ عن فجوة لا يمكن سدها بين المثل الشيوعية والواقع المأسوى للحقائق.
الفيلم يصور ببساطة وجمال واحدة من بشائع التاريخ وديناميكيات القوة والسرية التى كانت مركزية للاتحاد السوفيتى وكان على مخرج الفيلم وكاتب السيناريو أندريه كونشالوفسكى إعادة بناء الأحداث وجمع وثائق أرشيفية والتحدث مع أحفاد شهود العيان الذين شاركوا أيضا فى إطلاق النار.
قدمت الممثلة جوليا فيسوتسكايا ملهمة كونشالوفسكى الفترة الأخيرة، دورا صعبا ومركبا بين ولاءاتها المتناحرة بين الوطن والأمومة، كمراقب يشجع السلطات على الحكم بقبضة من حديد، ثم كأم مذعورة على ابنتها، وكم كانت تحولات تعبيراتها عنصرا مؤثرا فى البعد الدرامى للأحداث، حيث تشاهدها وهى تكافح من خلال مجموعة من المشاعر المتنافسة التى تشكل محور الفيلم، فتلك الشخصية الرئيسية لديها، حتى النهاية، موقف حنين إلى ستالين، الذى تدافع عنه حتى عندما تواجه الجرائم البشعة التى ارتكبت باسمه فى مذبحة سيئة السمعة، وتلك مسألة نفسية صعبة ومرهقة للمثلة وكما نراها فى النهاية غارقة فى النظرة إلى كلبة ترضع مجموعة من الكلاب الصغيرة وسط فوضى الصراع البشرى، مما يشير إلى أن الارتباط والبقاء هما المسار الطبيعى لكل حيوان بجانبها، فى حين يتعرض الجنس البشرى باستمرار للخطر بسبب العنف الذى يسببه الإصرار، والأيديولوجيات والأجندات السياسية.
الفيلم بمثابة قطعة سينمائية متقنة فى أصالتها تلتقط جو وشعور العصر، وتلخص التناقضات التى سادت فى المجتمع السوفيتى فى ذلك الوقت.
كونشالوفسكى قام هنا بإحياء فصل مظلم آخر من التاريخ السوفيتى، حول تغيير الولاءات واستخدام العنف تحت واجهة البيروقراطية للحفاظ على الوضع الراهن رغم الأضرار الجانبية البشرية الكبرى، هو لا يعلق على العنف لكن يمنحه كثافة رمزية تلتقط كاميرته الكثير من تلك الظروف من خلال زجاج نافذه محطم، وتحدق ليودميلا فى المستقبل فى خاتمة الفيلم الرائعة وهى تجسد مزيجا معقدا من الأمل والخوف وسط بلد من غير المرجح أن يفك هذا الصراع فى وقت قريب، إنه فيلم عن تجاوزات روسيا الماضية لاستكشاف المزيد منها، والفيلم يؤكد أن البحث دائما عن الحقيقة يستحق العناء.
مازال كونشالوفسكى يقدم أفلاما مدهشة تركز على تفكك الشخصيات والأقدار المعقدة، وهذا واحد آخر منها بعد «الجنة» و«الخطيئة» وسينافس بقوة على الأوسكار الثالثة والتسعين لأفصل فيلم أجنبى.

خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات