الصحراء قبل اختراع الكاميرا - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الأربعاء 22 مايو 2024 2:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصحراء قبل اختراع الكاميرا

نشر فى : الثلاثاء 30 أبريل 2024 - 7:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 أبريل 2024 - 11:51 م

اللوحة المرفقة رسمها فنان فرنسى خلال حملة نابليون على مصر قبل أكثر من 220 سنة. تقع اللوحة فى الصفحة 100 من أطلس اللوحات المرافقة للكتاب الشهير «وصف مصر»، وتبين قطاعا من صحراء مصر الشرقية التى كانت تعرف آنئذٍ باسم «الصحراء العربية» أو «صحراوات العرب» نسبة إلى اشتراكها مع شبه جزيرة العرب - عبر سيناء - فى الملامح الطبيعية ومعيشة أهل الصحراء من العرب البدو.


لم تكن الكاميرا قد ظهرت فى تلك الفترة، وسنحتاج إلى 40 سنة أخرى بعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر ليتم اختراع أولى أدوات التصوير الفوتوغرافى فى عام 1839. ولن تصل الكاميرا لالتقاط مشاهد من منابع النيل وزنزبار إلا فى 1860.


فى نهاية القرن ١٨ زمن حملة نابليون كان الرسامون يصورون مصر لنقل ما يرونه من معالم البيئة والحضارة والإنسان فضلًا عن رسم النقوش الفرعونية حتى قبل فك رموز الأبجدية الهيروغليفية، التى لن تفك شفرتها إلا بعد مغادرة الحملة وعودتها إلى فرنسا على يد شاب لم يكن من بين أعضاء الحملة وهو «فرانسوا شامبليون».

 


لا غرابة فى أن تبدو اللوحة المرفقة المرسومة بريشة الفنان الفرنسى أقرب إلى صورة بالكاميرا، ما تزال كليات الفنون الجميلة فى مصر تعطى الرسم باللوحات والريشة مسمى «فن التصوير».


الحقيقة أن التصوير بالريشة أمر مدهش للغاية حتى على المستوى اللغوى، أذكر انه استوقفنى فى اللغة الروسية استخدام الفعل «يكتب» لوحة فنية بدلًا من «يرسم» أو حتى «يصور» هذه اللوحة، وفى ذلك دلالة بليغة على أن اللوحة هى عمل يناظر تمامًا وحى تأليف الأفكار وكتابة الكلمات.


فى دفاعه عن الشرق ورفضه للصور النمطية المغلوطة التى روجها الاستعمار الغربى عن بلادنا يرى المفكر الفلسطينى العظيم إدوارد سعيد فى أطروحته عن الاستشراق أن الحملة الفرنسية على مصر كانت أقرب إلى «عمل تعسفى قامت فيه دولة باستيلاء جماعى رهيب على دولة أخرى».


يمكن تبنى وجهة نظر سعيد بخصوص الحياة الاجتماعية السياسية والاقتصادية فى مصر وقت الحملة الفرنسية لكن اللوحة المرفقة لا تندرج ضمن هذا النوع من الاستشراق الاستلابى إذ هى فى الحقيقة تعطى صورة دقيقة عن الصحراء الشرقية قبل قرنين من الزمن وستبقى صالحة لقرون طويلة مقبلة، لأنها صورة حية أيضًا لعالم اليوم.


ورغم أن الفنان الذى صور(رسم) لوحة صحراوات العرب وضعها فى الطريق من أسيوط إلى البحر الأحمر فإنه حدد لنا موقعها بالضبط فى جبل غارب.


كانت جغرافية القرن التاسع عشر فى مصر الناطقة بالعربية تسمى هذا الجبل «غريب» وليس «غارب». مسمى غريب أقرب للخيال باعتباره فريدًا عجيبًا لا شبيه له.


ورغم وجاهة اسم «غريب» من القرن 19، فإن الاسم المحرف «غارب» تكرس على الخرائط، وأعطى اسمه لمدينة بترولية نشأت أمامه على رأس بحرى فى جنوب خليج السويس وصارت تعرف باسم مدينة «رأس غارب».


نعود إلى 220 سنة مضت ونرى الرسام الفرنسى الذى صور جبل «غارب» فنجده أهدانا خمسة معالم رئيسة تلحظها إن تمعنت قليلًا فى الصورة المرسومة:


• وادى خانقى يندفع من قلب الجبل يحمل صخورًا حادة كبيرة الحجم فى دلالة على سيول عنيفة. على الجانب الأيمن تبدو صخور نارية أقرب إلى «الجرانيت»، بينما على الجانب الأيسر صخور نارية تأخذ شكل البركانيات المتحولة، وفى المنتصف القمة الهرمية الشهيرة لجبل غارب التى نعرف الآن أنها مؤلفة من الجرانيت.


• تطهير طريق فى الوادى بإزاحة الكتل الحجرية إلى الجانبين، وهى الطريقة البسيطة المتبعة منذ آلاف السنين فى إعداد الدروب فى الصحراء خاصة فى العهدين اليوناني- الرومانى.
• شجيرات السمر أو السيال فى منتصف الوادى بشكل يعين ما يسميه علماء النبات "الخط الأوسط" للمجرى الذى يؤشر على وفرة المياه فى بطن الوادى.


• مجموعة من البدو لا يزيد عددهم عن 9 أفراد وقد أخذوا جلسة استراحة من سفر عبر الصحراء وشملت الاستراحة إناخة أحمال الإبل وإشعال نار للتدفئة وإعداد القهوة والتسامر ووضع البنادق جانبا.


• لأن الوادى خانقى كثير الصخور كان من الصعب على الإبل الصعود بنفسها إلى عيون المياه فى جبل غارب فجاء احد البدو لها بالمياه فى قربة ماء ويظهر فى الصورة-اللوحة، وهو يصبها فى حوض صخرى.

 


وحين زرت هذا الموقع قبل عامين وجدت فيه كثيرا من تلك الملامح ولم يتغير عليه إلا إضافة سيارة ربع نقل تيوتا بيضاء تنتقل سريعًا بين بطن الوادى ومدينة رأس غارب على الطريق الأسفلتى.


يتألف المكان من ثلاث قمم جبلية مؤلفة من الصخور النارية (أساسها الجرانيت) يعرفها العامة باسم جبل «غارب». القمة الأولى التى تظهر فى الصورة المرفقة هى لجبل «غارب» وارتفاعها ١٧٥٠ مترًا، أما القمتان الأخريان فواحدة اسمها «غويرب» خارج الإطار الأيسر للصورة ويشير اسمها بقمتها البالغة ١٣٦٠ مترًا إلى أنها تصغير للأخ الأكبر «غارب» أو بالأحرى تصغير للاسم القديم «غريب».


القمة الثالثة تقع إلى الشرق من الصورة المرفقة وتحمل اسم جبل أبوخشبة (أى كثير الشجر) وهو موطن لبدو المعازة، ويبلغ ارتفاعها ١٤٦٠ مترًا.


فى عام ١٩٣٧ وعند أقدام جبل غارب استخرجت شركة إنجليزية أول حقول للنفط فى الإقليم وتأسست عليها مستعمرة اقتصادية عند الرأس البحرى المواجه لجبل غارب والمتوغل فى خليج السويس والمسمى «رأس غارب»، والتى صارت اليوم ثانى أكبر مركز عمرانى فى محافظة البحر الأحمر بعد الغردقة.


النفط والغاز إلى زوال وتتناقص كميات الاستخراج منهما، فما العمل فى المستقبل؟


الإجابة تأتى سريعًا بتأسيس واحدة من كبريات محطات توليد الكهرباء من قوة الرياح عند أقدام جبل غارب الذى يشكل كوريدور (ممر طولى) للرياح الشمالية. تعمل فى المحطة حاليًا بهمة ونشاط شركات خاصة عملاقة أجنبية ومصرية، وستتفوق حين اكتمالها على محطة الزعفرانة المجاورة التى عدت ذات يوم أكبر محطة من نوعها فى الشرق الأوسط.


فى غارب كنوز أخرى من الأحجار والصخور والمناجم التى ما زال علم التعدين يكتشف فيها الجديد كل يوم، علاوة على التفرد الإيكولوجى الذى يرشح غارب كمقصد سياحى عالمى.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات