رحلتنا اليوم فى زمان سابق علينا بعقود طويلة، ولكن المكان واحد: أرض مصر وجغرافيتها. نتعرف فى هذه الرحلة على جيورج شفاينفورت أول رئيس للجمعية الجغرافية المصرية.
وأود التنويه من البداية أننى استعنت بزميلى العزيز د. أسامة حميد، أستاذ الجغرافيا فى جامعة بنها، ليكتب معى هذا المقال عن السيرة الذاتية للرجل وزمانه ودوره فى جغرافية مصر. واستندنا فى كتابة هذا المقال إلى مصدرين:
- الأول بالفرنسية من تأليف هنرى مونييه سكرتير الجمعية الجغرافية المصرية ونشر فى مجلة الجمعية عدد أغسطس 1926.
- والثانى بالإنجليزية ونشر فى العدد نفسه وكتبه جون بول عن مساهمات شفاينفورت فى خرائط مصر.
فى عام 1836 ولد جيورج شفاينفورت Georg August Schweinfurth فى مدينة «ريجا» على ساحل بحر البلطيق، التى عاشت فيها عائلته منذ مطلع القرن 19. فى هذا البلد الواقع ما ببن روسيا واسكندنافيا ومتأثر بالتاريخ البروسى تلقى شفاينفورت تعليمه الأوّلى بالألمانية ثم استكمل دراساته فى علم النبات فى ميونخ وبرلين، ومنذ وقت مبكر جدًا اكتشف فى نفسه حب المغامرة وارتياد المجهول.

اتجهت رحلاته الأولى فى سنين الشباب إلى كل من النمسا وروسيا وإيطاليا، لكنه كان دوما توَّاقًا إلى زيارة مصر. وما أن أتم دراسته الجامعية حتى كافأته والدته بتمويل أولى رحلاته البعيدة، فاختار صحراء مصر الشرقية.
وصل شفاينفورت إلى مصر فى ديسمبر 1863 واستأجر مركبًا صغيرًا ذرع به ساحل البحر الأحمر من القصير إلى برنيس، ومن هناك إلى سواكن: ميناء السودان الأكبر على البحر الأحمر آنذاك. ومن سواكن توغل فى العمق إلى كسلا وسِنَّار والخرطوم.
وما يهمنا من نتائج رحلته الأولى أنه نشر سنة 1865 أول خريطة للمنطقة حول حلايب، وبقيت هى الخريطة الوحيدة للمنطقة حتى قام جون بول سنة 1906 بمسحها بالأجهزة المساحية.
وبعد إتمام رحلته الأولى عاد إلى ألمانيا سنة 1866 مصطحبًا مجموعة ضخمة من عينات النبات لفتت أنظار علماء الأكاديمية الملكية فى برلين. فأمدوه بتمويل من مؤسسة همبولت وكلفته الأكاديمية باستطلاع مجاهل أعالى النيل، وكانت ألمانيا وقتها فى المراحل الأخيرة من إتمام وحدتها ولم تكن قد صاغت مشروعها الاستعمارى بعد، ومن ثم يمكن القول إن أعمال شفاينفورت كانت متحررة من أغراض التجسس العلمى الذى غالبًا ما عمل من خلاله العلماء الأوروبيون فى مصر وبقية البلاد الخاضعة للاستعمار.
ثم حظيت زيارته الثانية إلى مصر بدعم الحكومة المصرية التى كانت تهدف إلى ما يسعى إليه شفاينفورت ألا وهو معرفة المزيد عن أعالى النيل. ومن خلال الاهتمام الرسمى بمكانته تسابق على الترحيب به تجار العاج وزعماء القبائل الموالون للحكومة فى أعالى النيل، فانطلق من الخرطوم سنة 1868 مصعدًا فى النيل الأبيض ومستكشفًا حوض بحر الغزال وبعض روافد نهر الكونغو ورسم خط تقسيم المياه بين النيل والكونغو.
فى منابع النيل، تعرف على أحوال قبائل الدينكا والشِلُك والغطاس والجولو وكان أول أوروبى يتوغل فى بلاد الأزاندى (نيام نيام) التى قسمتها فيما بعد الحدود السياسية فأصبحت واقعة فى ثلاث دول هى السودان الجنوبى، الكونغو، وإفريقيا الوسطى. ودوَّن شفاينفورت ملاحظات رائدة عن الأقزام وبيئة الغابات الاستوائية.
ولما عاد إلى برلين سنة 1872 استقبله الوسط العلمى بحماس، بل واستدعته الجمعية الجغرافية الملكية فى لندن لتمنحه الميدالية الذهبية على كشوفه أقواما لم يكن الأوربيون يعلمون عنهم شيئا، وقد وصفهم فى كتابه «فى قلب إفريقيا «Im Herzen von Afrika»» الذى صدر أولاً بالألمانية سنة 1874 ثم سرعان ما ترجم إلى عديد من اللغات.
ولحبه الكشف والمغامرة رفض عرضًا مغريًا بشغل كرسى مرموق فى إحدى الجامعات الألمانية تاركًا ذلك ليعود إلى مصر سنة 1874 بنية صرف كل جهده إلى الاستكشاف فيها، فكانت رحلته الأولى إلى الواحات الخارجة، وفيها التقى جرهرد رولفس العائد من رحلة كان قد كلفه بها الخديو إسماعيل لاختراق بحر الرمال والوصول إلى واحة الكفرة.
وفى عام 1876 نشر شفاينفورت نتائج رحلته فى خريطة لواحة الخارجة، وقد رسمت هذه الخريطة وفق قواعد علم المساحة أى بإنشاء خط قاعدة وشبكة مثلثات واحتوت الخريطة على القرى والآبار والمواقع الأثرية.
المعروف أن معاهدة لندن 1840 قد أغلقت بلاد الشام فى وجه محمد على وخلفائه، ومن ثم راوغ إسماعيل فى مشروعه التوسعى بتحريك المحور الجيوسياسى المصرى نحو الجنوب والغرب.
وفى هذا الإطار كلف الخديوى إسماعيل شفاينفورت بتأسيس الجمعية الجغرافية الخديوية فى القاهرة فى يونيو 1875. وكان أكثر الأعضاء المؤسسين للجمعية من الأجانب ممن تولوا إدارة الجمعية لأكثر من نصف قرن وهى فترة شهدت إنتاجًا علميًا خصبًا ضاهى نظيره العالمى.
وكرئيس للجمعية، انطلق شفاينفورت مع رفيقه بول جوسفلت فى عشر رحلات فى هضبة المعازة بصحراء مصر الشرقية استغرقت الفترة من 1876-1880 قطعًا فيها آلاف الكيلومترات وأسفرت عن إنشاء أول خرائط تفصيلية لهذا الجزء من مصر، ولم يعد شفاينفورت يهتم بالعودة إلى ألمانيا بعد كل رحلة، إذ أقام فى مصر 13 سنة متصلة.
وقد نشر شفاينفورت خرائط الصحراء الشرقية فى مجلات ألمانية وإيطالية، كما نشر خريطة ذات مقياس تفصيلى نسبيا عن منطقة حلوان بهدف دراسة أحوال التعرية الصحراوية. وفى هذه الفترة الخصبة انطلق فى رحلات حول القاهرة وإلى الفيوم ومنطقة قناة السويس وميناء طبرق وجزيرة سقطرى وسواحل اليمن ولبنان. وخلال هذه الفترة كان الاهتمام كبيرا بآثار ما قبل التاريخ فى مصر، فجمع آلاف الأدوات الحجرية فى أكثر من 40 مجموعة أودع معظمها المتحف المصرى بالقاهرة. كما اهتم بآثار النبات فى قبور عصر مصر القديمة وتعرف على مائتين من أنواع النباتات المصرية القديمة.
وباحتلال الإنجليز مصر (1882) لم يعد لشفاينفورت ما كان له من حظوة، فغادر مصر فى 1888 إلى ألمانيا لينهمك فى تصنيف وترتيب ما أرسله لبلاده من عينات النبات، لكن حبه للكشوف عاد به إلى اليمن سنة 1889 ثم جاس شمال الحبشة ومستعمرة إرتريا الإيطالية وكتب عنها عددا من المقالات ثم قادته ميوله الكشفية إلى طرابلس الغرب ومنها إلى تونس والجزائر فى الأعوام الممتدة بين 1901 و1908.
وفى كل أعماله السابقة ذاع صيته لدرجة أن أكثر من ستين جمعية علمية دعته إلى إلقاء محاضرات فيها ومنحته 30 جمعية عضويتها الفخرية ومنحته جامعة هايدلبرج دكتوراه فى الطب ومنحه وزير التعليم الألمانى لقب الأستاذية.
وحين توفى فى ألمانيا فى 1925 دفن فى الحديقة النباتية التى طالما اعتنى بتنظيم مقتنياتها.
وبلغ مجموع ما كتب من مقالات ومذكرات أكثر من 430 عملاً.
وقال عنه ماسبيرو «لا أعرف ركنا فى مصر لم تطأه أقدام شفاينفورت».