مشاعر خاصة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 8:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مشاعر خاصة

نشر فى : الخميس 30 مايو 2019 - 9:50 م | آخر تحديث : الخميس 30 مايو 2019 - 9:50 م

في زاوية الشرفة الزجاجية كانت تقبع صاحبتنا مستكينة كعادتها وقد ارتدت مريلة من البلاستيك المشجر، عموما أقبل الصيف ولن تمر سوى بضعة أيام وتنتقل بعدها صاحبتنا إلى الداخل لحمايتها من الحرارة، وعندما تدخل فإنها سوف تتحرر من هذه المريلة وتكون على راحتها تماما، جازى الله ثقب الأوزون ومن تسببوا فيه فما عاد الصيف معتدلا ولا الشتاء دافئا وأصبحت الفصول الأربعة مسكونة بكل أنواع المفاجآت، وبعض هذه المفاجآت صار مدهشا. ستترك إذن صاحبتنا الشرفة الزجاجية وتستقر في هذه الغرفة المهجورة التي هي بمثابة مصيدة لكل أنواع الكراكيب من أول الحقائب الضخمة التي تُخَزّن فيها الكتب والملابس وألبومات الصور وانتهاء بطقم الشوك والملاعق والسكاكين الألباكاه الذي لا يستخدم إلا في مناسبات من نوع خاص. لكن على أي حال فإن زجاج النافذة مفتوح لمدة أربع وعشرين ساعة وهناك مروحة في السقف لزوم التهوية، وكل شيء معد له على أفضل ما يكون.

***
عُمر هذه الرحلة السنوية التي تقطعها صاحبتنا من الشرفة الزجاجية القبلية إلي الغرفة البحرية المهجورة يقترب من الخمسة أعوام، ومع ذلك فإنها مستمرة ومتواصلة بكفاءة مشهودة. الفضول يتملك قارئ هذه السطور وهو يتطلع لمعرفة من هي صاحبة الصون والعفاف التي تقضي الشتاء في الشرفة والصيف في الغرفة، وقد حان وقت الكشف عن هوية بطلة القصة: إنها أنبوبة بوتاجاز! نعم أنبوبة بوتاجاز ثمينة جدا، وكثير من الأشياء يستمد أهميته من مشاعرنا نحوه وليس من قيمته المادية.

***
من خمس سنوات بالتمام والكمال راحت الجارة الفاتنة تلملم محتويات شقتها استعدادا للارتحال من مدينة نصر إلى الشيخ زايد فيما كان جارها المحب يراقب محتويات نفسه وقد تبعثرت ليست تجد من يلملهما، ذكرياته تبعثرت وآماله تبعثرت ودموعه أيضا. آه لو كان له حق عليها لرجاها ألا تذهب، لقال لها إن هنا الونس والدفء والجيرة والعِشرة والعشم، وهناك لا شيء من هذا أبدا بل أغراب يجاورون أغرابا، لكن لا حق له عليها. إنه مجرد جار قديم لها، ودود نعم، يُعتَمَد عليه نعم، لكنه مجرد جار. أما هي فإنها كانت بالنسبة له حلم الخريف. لم يكن قد تذوق طعم السعادة مع زوجته الأولى ومع ذلك لم يفكر في الانفصال عنها، إنه شخص قدري بامتياز، يتعامل مع كل معطي بوصفه قدرا والقدر واجب النفاذ. وحتى عندما رحلت زوجته لم تراوده فكرة الارتباط مجددا إلى أن سكنت هذه الجارة في الدور الرابع، اعتبر بينه وبين نفسه أن القدر دفع بها إلى طريقه ليعطيه نفحة من السعادة التي حرم منها طويلا، وزاد من اقتناعه بهذا التفسير أن كليهما أرمل وجد وميسور وعلى درجة عالية من التعليم .. كلاهما وكلاهما .. نقاط تشابه مذهلة رصدها وتعقبها، لكن المشكلة أن الاختلاف الوحيد كان في الشيء الذي من دونه يستحيل قيام حياة مشتركة تجمعهما: هو كان يريد الزواج أما هي فلا. جلسات وحوارات ووساطات والجارة ثابتة على موقفها: زوجها الأول هو زوجها الأخير، حالة من النفي الاختياري هي أقرب ما تكون إلى طقوس الأساطير الهندية مع اختلاف في التفاصيل. أما هو فلم يكف أبدا عن تكرار المحاولة لعلها تقتنع، لعلها تتغير، لعلها تستجيب، لكن ها هي شمس تشرق تلو أخرى ولا جديد تحتها، حتى طرقت باب شقته ذات صباح.

***
يقولون إن من الفرح ما قتل، وقد كادت الفرحة تقتله حين رآها قبالته بكامل هندامها لكن الله سلّم، ثوان وخرج من ورائها صبي مفتول العضلات دفع له بأنبوبة بوتاجاز قائلا: تفضل يا أستاذ، واختفي. ما هذا ؟ هل هو يحلم؟ لا لم يكن يحلم، والحكاية وما فيها أن جارة الطابق الرابع قررت أن تترك العمارة بما فيها ومن فيها وتذهب لأحد التجمعات الجديدة. هربت منه ربما وربما هربت خوفا من أن تضعف أمامه، فقررت أن تذهب بعيدا واختصت جارها الولهان بهذه الأنبوبة ليحتفظ بها على سبيل الاحتياط أو الذكري، الأمر سيان. فكر أن يثور في وجهها لأنها بدلا من أن تقرر الارتباط به قررت أن تمضي وتتركه وحيدا لا أنيس ولا جليس، وحاول أن يثأر لكرامته لأنه كان اكتشف أن قيمته لديها لا تساوي إلا أنبوبة بوتاجاز، لكنه لا ثار ولا ثأر وحلّ به خرس مفاجئ فجرّ الأنبوبة جرّا للداخل وهوى على أول مقعد صادفه. فيما بعد استجمع شتات نفسه و تبين أنه لم يتبق له من حلم الخريف إلا هذا الأثر، باعت جارته الشقة ونقلت الأثاث وتبدلت الوجوه في الطابق الرابع.

***
هو يعلم أنه شديد الرومانسية مثلما أنه شديد القدرية، لكنه لم يتصور أن يأتي عليه اليوم الذي يُكّون مشاعر خاصة جدا تجاه أنبوبة بوتاجاز لمجرد أنها آخر ما أهدته إليه، بل هي في الواقع أول ما أهدته إليه. في صباحات الشتاء الدافئة كان يجلس في شرفته الزجاجية القبلية يحتسي فنجان القهوة المضبوط ويدخن، ينظر إلى الأنبوبة الحبيبة أو بمعني أدق ينظر إلى أنبوبة الحبيبة فيتبدد شعوره بالوحدة، هي معه، هي حاضرة، هي تراه، يسرح في مشهد يرجو أن يتحقق وهما معا في المطبخ يطهوان ويضحكان. أما في الصيف فكان اختلاؤه بالأنبوبة أصعب قليلا، فالحركة وسط كراكيب الغرفة المهجورة تتم بحذر شديد، لكن هذا لم يمنعه أبدا من أن يلقى عليها السلام كل صباح لعله يتلقى ردا. صارت حكاية هذه الأنبوبة اللغز مثار دهشة كبيرة، فلم تفهم أبدا معاونته الطيبة سر الغضب الجنوني الذي اجتاح مخدومها عندما همّت بتغييرها بعد أن فرغت لأول مرة، ولعل الهواجس لعبت بعقل المرأة الريفية البسيطة وهيأت لها أن البيه لاشك يخفي شيئا ثمينا داخل الأنبوبة وإلا فما السر في احتفاظه بها فارغة، بل ما السر في إبقائه عليها حتى بعد أن دخل الغاز إلى العمارة التي يسكنها؟ استبد بها الفضول ذات مرة وبلغ منها مبلغه فانتهزت فرصة وجود مخدومها خارج المنزل وراحت تبحث في الأنبوبة عن تجويف لعلها تقف على السر، لكنها لم تجد.

***
مر كعادته علي الأنبوبة بعد أن دخلت إلي مستقرها الصيفي، الكراكيب تحاصرها وتضيق عليها الخناق لكنه لا يرى سواها ولا يشعر إلا بوجودها. هل من أحد يصدقه حين يقول إنه مستعد لدفع حياته ثمنا لها؟ لن يصدقه أحد إلا إذا .. إلا إذا شرح أن هذه الأنبوبة وحدها هي التي تحرك في نفسه مشاعر تثبت له أنه مازال بعد على قيد الحياة، وأنه في وحدته القاتلة ومع انشغال الجميع عنه .. كثيرا جدا ما يحتاج ما يثبت أنه يعيش.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات