فجر موقف طهران «الملتبس» حيال التصعيد العسكرى الإسرائيلى، غير المسبوق، إزاء حزب الله اللبنانى، جدلًا استراتيجيًا، حامى الوطيس، بشأن مآلات العلاقة الشائكة بين إيران وأذرعها الولائية المسلحة فى الإقليم. فضلًا عن مصير ما يسمى «محور المقاومة»، المستند إلى استراتيجيتى «وحدة الساحات» و«غرفة العمليات المشتركة».
رغم اعتبارها الحزب اللبنانى «خطًا أحمر»، كونه يشكل، منذ تأسيسه عام 1982، خط دفاعها الأول، أهم وكلائها العسكريين فى المنطقة، ورأس حربة «محور المقاومة»؛ فيما تراه دوائر غربية «أقوى جيش غير نظامى على مستوى العالم». لم تبدِ إيران حماسًا مقنعًا لنصرة الحزب، فى مواجهة الاستهداف الإسرائيلى المركز والمتواصل لقياداته، هياكله التنظيمية واللوجيستية، قدراته القتالية وحاضنته المجتمعية.
تأسست علاقات طهران بوكلائها، على «استراتيجية الدفاع المتقدم»، التى تضمن إبقاء المعارك، التى يخوضها أولئك الوكلاء ضد خصومها، نيابة عنها، بمنأى عن الحدود الإيرانية. حتى لا تطالها ارتدادات مغامرات وكلائها، ولا تتورط فى أية مواجهات، تعوزها الرغبة والقدرة اللازمتين لخوضها.
تواصل إيران الاعتصام بسياسة «الصبر الاستراتيجى». وفى هذا السياق، ارتأى مرشدها الأعلى أنه لا ضير فى التراجع التكتيكى أمام العدو، بغية إفشال مخططه لاستدراجها إلى حرب غير محمودة العواقب، يعيق بموجبها امتلاكها السلاح النووى، الذى سيشكل رادعًا لأعدائها. وبعدما لوح، من نيويورك، بعلاقة الأُخُوة، التى تربط الإيرانيين بالأمريكيين، التقطت واشنطن إشارات، الرئيس بزشكيان، التقاربية. حيث أكد البيت الأبيض عدم وجود دلائل على رغبة إيران فى حرب شاملة. بينما لوح المرشح الرئاسى الجمهورى، ترامب، بإمكانية إبرام اتفاق مع إيران، حالة انتخابه رئيسًا.
لما كان استخدام وكلاء إيران للمنظومات التسليحية، التى تزودهم بها، يرتهن بالتنسيق معها؛ باعتبارها الضابط لسياساتهم وتحركاتهم، بما يحدد طبيعة وحدود المعارك، التى يخوضونها. ترفض طهران تخويل حزب الله استخدام قدرات عسكرية استراتيجية أكثر فتكًا، مثل الصواريخ دقيقة التوجيه، بعيدة المدى، فضلًا عن المسيرات الهجومية، ضد إسرائيل. لأنها لم تسخر لفلسطين أو لبنان، بقدر ما تدخرها طهران لمواجهة مباشرة اضطرارية بينها وبين إسرائيل. ومن ثم، لم يقابل الحزب تصعيد إسرائيل المروع، بآخر مماثل.
• • •
بموازاة إعراضها عن الانتقام لمقتل القيادى الحمساوى إسماعيل هنية، فى عاصمتها؛ أعلن الرئيس الإيرانى استعداده للحوار مع الغرب بشأن برنامج بلاده النووى، الذى يعتبره مدنيًا صرفًا. وعلى هامش مشاركته فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد، بزشكيان، للصحفيين، أن بلاده مستعدّة لوضع أسلحتها جانبا، إذا ما فعلت إسرائيل، وليس الكيان الصهيونى، على أن تتولى منظمة دولية ضمان الأمن بالمنطقة. وبعدما نفى رغبة بلاده التورط بأية حروب، اتهم إسرائيل بنصب الفخاخ لجرها إلى صراع بلا منتصرين.
وفقا لموقع «أكسيوس» الأمريكى، ناشد حزب الله، الساخط على التقاعس الإيرانى، طهران مهاجمة إسرائيل، لتخفيف ضغطها العسكرى المكثف على لبنان. بيد أن الإيرانيين رفضوا الاستجابة، مخافة الانزلاق فى غياهب المخطط الإسرائيلى الهادف إلى إشعال حرب إقليمية، تطيح بمقدرات إيران، وتقوض برامجها النووية، الصاروخية، وتلك المتعلقة بالمسيرات. فضلًا عن إعاقة التوصل إلى تفاهمات إيرانية مع الغرب وإسرائيل. ولعل هذا ما يفسر رفض الراحل، نصر الله، زيارة وزير الخارجية الإيرانى، للبنان قبيل توجهه للمشاركة فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لم تقف رسائل، بزشكيان، لواشنطن، عند حدود التريث بشأن دعم وكلاء بلاده، على الساحتين الفلسطينية واللبنانية. وإنما ذهبت إلى النأى بالنفس عن التورط المباشر بأية مواجهات، وتجنب الحرب الإقليمية؛ من خلال إدراك وقف دائم لإطلاق النار فى غزة، ومنع التصعيد على الجبهة اللبنانية. ويشى هذا التحول فى الموقف الإيرانى، بجنوح نسبى صوب تقليص وتيرة الخطاب الأيديولوجى لمصلحة المقاربات الواقعية والبراجماتية. ما يوحى بانتقال تدريجى وحذر، من الثورة إلى الدولة، بخصوص بعض ملفات السياسة الخارجية.
عقب الهجوم الإسرائيلى المفجع على القيادة المركزية لحزب الله بضاحية بيروت الجنوبية، يوم الجمعة الماضى، والذى أسفر عن مقتل نصر الله، وعدد من قيادات حزب الله والحرس الثورى، كما عشرات المدنيين. دعا المرشد الأعلى الإيرانى، إلى اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للأمن القومى؛ انتقل، على إثره، إلى مكان آمن، ومحاط بإجراءات أمنية مشددة. فيما اكتفى مستشاره، على لاريجانى، بالإشارة إلى ثراء المقاومة بكوادر وأفراد، قادرين على خلافة كل قائد يستشهد. وبينما ناشد مسئولون إيرانيون الأمم المتحدة، واستنفروا الدول الإسلامية والعربية لنصرة لبنان، اكتفت السفارة الإيرانية ببيروت، باعتبار، جريمة إسرائيل النكراء تصعيدًا خطيرًا يغير قواعد اللعبة، متوعدة مرتكبها بالعقاب المناسب.
• • •
متوسلة إحكام حصارها على إيران، لمنعها من أى تصعيد محتمل، توالت اتهامات واشنطن لها بالتدخل فى الانتخابات الأمريكية المرتقبة، واستهداف المرشح الجمهورى، ترامب. حيث اتهمتها هيئة محلفين أمريكية كبرى، بالضلوع فى محاولات قرصنة سيبرانية لحملتى، ترامب، وهاريس، الرئاسيتين. ومن ثم، فرضت واشنطن عليها، قبل أيام، عقوبات جديدة. وبعد أيام من محاولة اغتياله الأولى فى يوليو الماضى، تلقت السلطات الأمريكية معلومات استخبارية بشأن مؤامرة إيرانية لاغتيال، ترامب، بقصد زعزعة الاستقرار، ونشر الفوضى داخل الولايات المتحدة. لاسيما وأن ترامب، هو الذى انسحب من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015، كما وجه باغتيال القائد السابق لفيلق القدس بالحرس الثورى، قاسم سليمانى، عام 2020. وحينئذ، كتب ترامب، على شبكته «تروث سوشيال»، على أمريكا أن تمحو إيران من على وجه الأرض إذا قامت باغتياله. كما أعلن خلال تجمع انتخابى بولاية كارولينا الشمالية، مؤخرًا: «لو كنت رئيسا، لأبلغت إيران، بأنه سيتم تدميرها إذا ما أقدمت على إلحاق ضرر بمرشح رئاسى أمريكى».
حتى لا تفقد أوراقها كافة، جنحت إيران لاستبقاء أنشطة أذرعها الولائية فى اليمن، سوريا والعراق، كمخزون احتياطى استراتيجى. حيث أطلق الحوثى عدة صواريخ ومسيرات ضد إيلات، عسقلان ويافا، حقق بعضها إصابات مباشرة. أما الفصائل الموالية لطهران بسوريا والعراق، فأمطرت إسرائيل بعشرات المسيرات والصواريخ، لتخفيف ضغوطها العسكرية عن كاهل حزب الله. وهددت باستهداف الأصول العسكرية الأمريكية فى سوريا والعراق، حالة شن إسرائيل هجومًا انتقاميًا على العراق. كما يبحث حزب الله العراقى، إرسال سبعة آلاف مقاتل، من سوريا والعراق، إلى منطقة البقاع، لدعم حزب الله اللبنانى.
• • •
ينطوى تقاعس طهران عن نصرة حزب الله، فى هذا التوقيت الحرج، تجنبا للتورط فى مواجهات غير مضمونة العواقب، مع إسرائيل وأمريكا، وإفشال مساعى التفاهم معهما، على تداعيات بالغة الخطورة. فمن جهة، ربما يفت فى قدرة الحزب الردعية، إذ يسلبه معادلة "توازن الرعب" بمواجهة إسرائيل، التى لن تتورع، بدورها، عن استغلال رغبة إيران فى إبرام صفقة مع واشنطن؛ لإضعاف الحزب، عبر تصفية قياداته، ومباشرة الضغط العسكرى المكثف على وكلاء طهران، متجاوزة الخطوط الحمر، وقواعد الاشتباك حيالهم، دونما تخوف من خروج الأمور عن السيطرة. ولعل هذا ما دفع واشنطن إلى منح إسرائيل الضوء الأخضر، للمضى قدما فى عدوانها على لبنان، طالما أنه لن يفضى إلى حرب إقليمية، لا تطيقها إدارة، بايدن، على مشارف الاستحقاق الرئاسى المرتقب.
من جهة أخرى، ورغم إعلان حوثيى اليمن، والمقاومة الإسلامية بسوريا والعراق، مواصلة الإسناد العسكرى لغزة ولبنان؛ قد يفضى تقاعس إيران، إلى تقليص تأثيرها على أذرعها المسلحة. بما ينال من قدرتها على تحقيق الاستفادة الاستراتيجية المثلى من توظيف ما يسمى محور المقاومة، عبر استراتيجية وحدة الساحات. الأمر، الذى يفضى، فى نهاية المطاف، إلى تقويض استراتيجية الدفاع المتقدم الإيرانية. بما يستتبعه ذلك من تحجيم لنفوذ طهران الجيوسياسى، إقليميًا، وإضعاف موقفها التفاوضى على الصعيد الدولى.