الدكتور محمد المخزنجى يكتب: «القنابل القذرة».. خيال يفضح الواقع والاحتمال - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:20 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدكتور محمد المخزنجى يكتب: «القنابل القذرة».. خيال يفضح الواقع والاحتمال


نشر في: الخميس 4 أغسطس 2022 - 8:49 م | آخر تحديث: الخميس 4 أغسطس 2022 - 8:49 م

«الخيال العلمى الصعب»، تصنيف ضمن أدب الخيال العلمى يتميز عن نظيره «السهل» بارتكازه على معرفة علمية دقيقة تتعلق بموضوع القصة أو الرواية، لهذا تكرر تجلِّيه بتنبؤات مستقبلية مذهلة، وها هى نبوءة مخيفة عمرها اثنان وثمانون عاما، تتجسد الآن.
................................
«منذ صباح اليوم التالى للغارة على المدينة، وعلى امتداد أسبوع، قامت طائرتان من سلاح الجو الملكى البريطانى بالتقاط الصور. أظهرت اللقطات الأولى بعض الشوارع الرئيسية وكانت شديدة الزحام مع كثرة من حوادث المرور. وفى اليوم الثانى الذى أعقب محاولة الإخلاء كانت الساحات الداخلية للمدينة مهجورة إلا من الجثث وحطام السيارات. لكن الشوارع المؤدية إلى مخارج المدينة ظلت تغلى بالناس الذين مضى معظمهم على الأقدام لأن الترام صار خارج الخدمة. كانت المخلوقات الشائهة تفر ولا تعرف أن الموت قد استقر بداخلها. ومع انقضاض إحدى الطائرتين عند نقطة محددة لأخذ لقطة مركزة بعدسة مقربة التقت عينا المصور بوجه امرأة شابة لعدة ثوان. حدقت فيه بنظرة ذاهلة للغاية، لا يمكن نسيانها، ثم تعثرت وسقطت، وسرعان ما تعرضت للدهس من عربة تجرها الخيول التى راحت حوافرها تتعثر فى جسد الضحية. وأظهرت سلسلة اللقطات المأخوذة بعد أسبوع مدينة ميتة. لم يكن هناك رجل ولا امرأة ولا طفل، ولا قطط ولا كلاب، ولا حتى حمامة. كانت الجثث فى كل مكان، لكنها كانت فى مأمن من الفئران. فحتى الفئران ماتت!».

* بين الكاتب والمكتوب
السطور السابقة ــ بتصرف سردى محدود للغاية استلزمه الإيجاز دون تغيير المحتوى ــ مأخوذة من قصة «حل غير مُرضٍ» لكاتب الخيال العلمى الأمريكى روبرت انسون هيينلين (يوليو 1907 ــ 8 مايو 1988) الذى بدأ مهندس طيران وضابط بحرية. وبعد تسريحه اشتغل فى مهن هندسية مختلفة، ولم يدر فى خياله أبدا أن يصير كاتبا، حتى تصادف أن حضر لقاء لمجموعة من الرجال المتقاعدين يتسلون بحكى الحكايات من وقائع عايشوها أو أخيلة تراودهم، أعجبته المسألة فالتحق بالمجموعة، اندمج وحكى، وكان هناك «كشاف» يلتقط من بين هؤلاء الحكائين من يصلح أن يكون كاتبا، فعرض عليه أن يكتب ما حكاه، ولم يكن مارس ذلك من قبل ولا خطر له على بال، فاعتذر، لكن عندما أقنعة الكشاف بأنه سيحصل مما يكتبه على مقابل مُجزٍ، وافق فورا، فقد كان مُهدَدا بالطرد من بيته الذى تأخر فى سداد أقساط رهنه العقارى. وكتب قصصا قصيرة فى قالب الخيال العلمى بتلقائية لافتة، وطلاقة هاوٍ غير عابئ بأى تألق أو تأنق أسلوبى، وسرعان ما صار الكاتب الذى ينفد فى ساعات أى عدد تكون له فيه قصة من مجلة «الخيال العلمى المذهل»، وقد أذهله الحصاد من ذلك: فهو لم يسدد ديون بيته فقط، بل بنى بيتا جديدا صممه بنفسه، وتخلص من سيارته القديمة لصالح سيارة جديدة فاخرة، وانطلق مكتشفا فى نفسه شغفا بالكتابة يكاد يكون إدمانا إن توقف عن ممارسته يمرض. وصار اسمه مع السير «آرثر كلارك» و«إسحاق أسيموف» ضمن من يطلق عليهم «الثلاثة الكبار» من كتاب «الخيال العلمى، بل ويُطلق عليه أحيانا لقب «عميد كُتاب الخيال العلمى الصعب»، والقصة التى يتناولها هذا المقال نموذج يوضح مدى استحقاقه ذلك، فبرغم الاتفاق النقدى على أن نثره كان يفتقر إلى التألقات الأسلوبية لدى زميليه كلارك وأسيموف وحتى بعض تلامذته مثل «راى برادبرى»، إلا أنه كان يقدم ما يشفع له أن يتبوأ موقع ريادة هذا الفن!
لقد تضمن الكثير من قصصه ــ المثيرة والمقنعة وسهلة الوصول ــ رؤى نبوئية ثبت تحققها بعد سنوات أو عقود، وعُزى هذا التميز إلى تململه الفكرى النقدى الذى جعله يتعقب بعين الخيال ــ المؤسس على معرفة علمية جادة ــ مآلات التكنولوجيا فى عصرنا، فيلمح بعين هذا الخيال ما لم يتوقعه غيره من كتاب الخيال العلمى «السهل» الذى يشطح خفيفا وبعيدا عن أى مرجعية علمية موثوقة. وهناك مسرد طويل عجيب يشهد بالتنبؤات المبكرة لكثير من التكنولوجيات التى بتنا نعرفها، بخيرها أو شرها، وردت فى قصصه، ومنها قصتنا هذه التى كشفت مبكرا عن الوجه الخفى المظلم لاختراقات العلم فى مجال الفيزياء النووية، فقدم صورة تحذيرية دقيقة وأليمة لسوء استخدام المواد المشعة المصنعة، والتى تحققت بعد سنين وعقود فى حوادث وكوارث تلوث إشعاعى يقتل البشر ويدنس الشجر ويحظر حتى ملامسة الحجر. وله يرجع سبق توصيف وتصنيف ما صار يُدعى «القنبلة القذرة كـ«سلاح إشعاعى» يستخدم فيما صار يسمى «الحرب الإشعاعية»، التى ظلت أسرارها تتوارى خلف أبواب حصون صناعات الحرب. كما نبه إلى احتمال وقوع حوادث «تلوث إشعاعى» كبرى من محطات ومرافق الطاقة النووية الرسمية كما فى كوارث ثرى مايل أيالاند ــ 1979، وتشيرنوبل ــ 1986، وفوكوشيما ــ 2011. ناهيك عن «مشاريع» التلويث الإشعاعى المتعمد والتى نسبت إلى «الجماعات الإرهابية»، والتى دشنت مُسمَى «القنبلة القذرة» الذى راج فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر على برجى التجارة فى نيويورك، ليس فقط فى المعالجات الصحفية، بل حتى فى الوثائق الرسمية العليا؟!      

* 6 مارس، هل هناك قانون للصدفة؟!
وأشهر ما يمكن العثور عليه من تلك الوثائق هو تقرير جلسة استماع لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكى فى 6 مارس 2002 (أى بعد هجمات سبتمبر بنحو ستة أشهر) ورأسها السيناتور «جو بايدن» رئيس اللجنة حينها ورئيس الولايات المتحدة الآن، وكان عنوانها «القنابل القذرة وقنابل السراديب»، وهو تقرير معمق وشامل، شارك فيه حشد من العلماء والأطباء والعسكريين والسياسيين، ونُشر فى 53 صفحة، شملت كل ما يتعلق بـ«القنبلة القذرة» التى يمكن أن يستخدمها إرهابيون، دون التفات يُذكر للشق الثانى من عنوان التقرير وهو «قنابل السراديب» أى القنابل النووية غير المعلن عنها لدى دول لا تعترف بأن لديها سلاحا نوويا!
وفى 6 مارس هذا العام 2022، أى بعد عشرين سنة بالتمام والكمال من جلسة مجلس الشيوخ التى رأسها بايدن، صدر عن «مصدر بالكريملين غير مُسمى» (أى مجرد ناقل عن فلاديمير بوتين) يبرر اجتياح روسيا لأوكرانيا بأنه جاء استباقا لإعداد أوكرانيا لـ«قنبلة قذرة» فى محطة تشيرنوبل النووية المغلقة لاستهداف روسيا. مفارقةٌ فى صدفةٍ لابد أن لها قانونا ما! وإلحاقا بذلك، وفى 29 من مارس نفسه، نُقل عن أناتولى توسوفسكى مدير معهد الأمان النووى الأوكرايينى أنه بعد انسحاب الجنود الروس من تشيرنوبل تبين اختفاء كمية من النفايات المشعة مخزنة بمستودع ملحق بالمحطة النووية المغلقة، يمكن استخدامها فى صنع «قنبلة قذرة» تهدد بتلويث إشعاعى لمنطقة ضخمة!

* ماهية هذه القذرة
باختصار على اختصار الموسوعة البريطانية: «القنبلة القذرة»، والتى تسمى أيضا جهاز التشتت الإشعاعى (RDD)، هى عبوة ناسفة مصممة لنثر المواد المشعة لإحداث «تلوث إشعاعى» فى منطقة ما، ومن ذلك تكتسب صفتها. فهى عبارة عن عبوة تجمع بين مادة مشعة صناعية مما يستخدم فى الطب والصناعة (أشهرها نظير السيزيوم137)، ومادة متفجرة تقليدية كالديناميت أو الـ«تى إن تى»، وقوة تفجيرها تكاد لا تقارن بقوة تفجير قنبلة ذرية ناتجة عن تفاعل متسلسل لانشطار ذرات اليورانيوم أو البلوتونيوم شديدى النقاوة وانطلاق طاقة هائلة. بينما القنبلة القذرة يشتت انفجارها المواد المشعة وينشرها فى مساحة تحددها قوة التفجير. وصناعتها بالطبع أرخص وأسهل من صناعة قنبلة نووية. وإذا انفجرت قنبلة قذرة فى منطقة مزدحمة فقد يُقتَل الأشخاص الذين يقفون بالقرب منها على الفور بسبب الانفجار ويكون عددهم محدودا على الأغلب. أما الضرر الأكبر والأخطر فيحدث على المدى الأطول نتيجة تلويث المنطقة التى انتشرت فيها المادة المشعة وحولتها إلى ساحة للموت بالتسمم الإشعاعى المدمر للخلايا والأجهزة الحيوية لكل حى أو بإحداث تشوهات فى المادة الوراثية تؤدى إلى السرطان أو العقم أو تشوه المواليد. ويظل هذا التأثير الإشعاعى المدمر للحياة طالما استمر تلوث المنطقة المصابة بالمادة المشعة وبامتداد فترة «نصف العمر» للمادة المشعة حتى تتحول إلى مادة أخرى أقل إشعاعا أو غير مشعة، وهذه قد تستمر عقودا. لهذا يتحتم تطهير المنطقة المصابة بثمن باهظ وتكلفة مادية وبشرية عالية، فغالبا ما يتحتم إخلاء المنطقة من سكانها وهدمها ودفن أنقاضها فى «مقابر» للإشعاع فى مناطق تظل محظورة حتى تتحلل المادة المشعة. ومن ثم يترتب على تفجير القنابل القذرة، برغم قلة ضحاياها العاجلين، أعباء اقتصادية ونفسية هائلة، لهذا توصف بأنها ليست «سلاح دمار شامل» بل «سلاح اضطراب شامل». وهذا التقدير فى حقيقته يقف عند النماذج «البدائية» من القنابل القذرة (التى لم تتفجر منها واحدة)، وأوردت الموسوعة العديد منها باعتبارها «مشاريع إرهابية»، أشهرها ما نسب للأمريكى من أصول لاتينية «خوسيه باديلا» أو عبدالله المهاجر» فى 8 مايو 2002.

* منشأ القذارة وتعدد أطيافها
وغير ذلك، هناك أطياف خفية لمشاريع هذه القذارة تتعلق بتهريب وتجارة المواد الإشعاعية المسروقة مما يسمى «المصادر اليتيمة»، أى التى تحتوى على مواد مشعة مصنعة بعد إهمال حراستها ومراقبتها أو حدوث فوضى وتفشى فساد تضافرا فى تجارتها العابرة للأقطار التى كثرت فى أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتى وانفصال أقطاره التى لديها مخزون كبير من المواد المشعة. ومن هنا نستطيع أن ننتقل إلى المستوى الأكبر والأخطر من «القنابل القذرة» الذى تستدعيه الذاكرة التاريخية لنشأة وتواتُر هذه القذارة، وقد أوجزته الموسوعة البريطانية إذ تقول إن «اقتراح نثر المواد المشعة كسلاح حدث لأول مرة عام 1941 من قِبل لجنة من الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم بقيادة الفيزيائى آرثر هولى كومبتون (أى قبل نشر قصة هيينلين بعام). ومن عام 1949 إلى عام 1952 اختبر الجيش الأمريكى متفجرات مصممة لتفريق التنتالوم المشع. وفى عام 1987 اختبر العراق قنبلة مملوءة بمواد مشعة، لكن الجيش العراقى كان غير راضٍ عن الكميات الصغيرة من النشاط الإشعاعى». وهنا يصح أن نضيف إلى إيجاز الموسوعة البريطانية ملحوظة عنوانها «غبار الموت: القصة غير المعروفة عن سعى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى لامتلاك أسلحة إشعاعية» وهذا عنوان مقال بحثى موسع نشرت خلاصته كتيبات مركز بيلفر لدراسات الأمن الدولى فى كلية هارفارد فى 14 ديسمبر، 2020، فالقنابل القذرة، أيا كانت مسمياتها التقنية، واضح أنها لم تتوقف عند النماذج البدائية لجماعات التطرف والإرهاب، فهناك الأكبر والأخطر.
وهذا الأكبر والأخطر لم يعد مجرد قصص غير معروفة تتطلب الكشف والبحث، بل صار واقعا يلوح أمام أبصارنا وبصائرنا عن مراودات حكومات ودول لاستخدام قنابل قذرة لن تكون إلا هائلة، وهذا واضح من تراشق طرفى تلك الحرب الحالية الغبية فى أوكرانيا باتهامات يوجهها كل طرف للآخر، متهما إياه بالإعداد لقنبلة قذرة لا يتورع عن استخدامها، والصورة هنا ــ لو حدثت وبلغت الحماقة الشيطانية أوجها ــ لن تكون أقل بشاعة واقعية مما رسمته قصة روبيرت هيينلين «حل غير مُرضٍ « منذ اثنين وثمانين عاما! فلنعد إلى تلك القصة النبوئية، ليس فقط لِنَتَعَوَّذَ من الرعب المُنذر، بل لنستطلع أى آفاق إجرامية يمكن أن تدفعنا إليها مبررات تدعى السعى إلى فرض السلام بالقوة، على جزء من العالم تحرقه الآن حرب غبية ــ كان ممكنا عدم الانسياق إليها ــ بل كان واجبا عدم الانسياق إليها. فلنعد إلى القصة..

* خيال يلمح الاحتمالات
فيما نستعرض إيجاز القصة التى تقع فيما يزيد على 15000 كلمة، وتكاد تشكل رواية قصيرة «نوفيلا»، علينا تذكُر أن وقائعها استبقت تحول تلك الحرب فى أوربا إلى حرب عالمية، كما استبقت ظهور مشروع مانهاتن الأمريكى لامتلاك سلاح نووى، واستبقت دخول الولايات المتحدة فى هذه الحرب، كما استبقت إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما ونجازاكى. وهى قصة يسردها راوٍ واحد، هو «جون ديفريز» مدير حملة «كلايد مانينج» عضو الكونجرس المنتهية ولايته والمرشح عام 1941 للكونجرس الجديد، وهو محارب قديم حصل على إجازة طبية بسبب مرض فى القلب. وقد حدث قُبيل الانتخابات أن استُدعى مانينج للخدمة برتبة كولونيل ليرأس مشروعا سريا ذا أولوية قصوى وبتمويل غير محدود لتطوير سلاح نووى قبل أن يفعل النازيون ذلك. لم يحرز المشروع تقدما يذكر حتى عام 1944. وكانت الحرب العالمية الثانية قد وصلت إلى طريق مسدود يتبادل فيه البريطانيون والألمان القصف المدمر الذى لا تبدو له نهاية. بينما تقف الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى واليابان على الحياد وفى الأثناء يسمع مانينج عن موت الأسماك فى خليج قريب حيث يتم التخلص من المنتجات الثانوية لأبحاث الدكتورة إستيل كارست التى تعمل على المواد المشعة الاصطناعية واستخداماتها الطبية.
كانت كارست باحثة ألمانية تعمل بمختبر العالِم «أوتو هان» المهتم بالمواد المشعة وأول من توصل إلى الانشطار النووى لذرة اليورانيوم. هربت من ألمانيا خوفا من عواقب الحرب والتعرض للاضطهاد. ولمح مانينج فى موت الأسماك بمخلفات مختبرها نوعا من السلاح الإشعاعى السهل وغير المكلف والذى يمكن التحكم فيه على عكس النماذج الأولية للقنابل النووية المُنجزة فى المشروع السرى التى لم يمكن ضمان عدم انفجارها أثناء نقلها، كما أن قدراتها التفجيرية يصعب التحكم فيها.
عرض مانينج الاقتراح على كارست التى استدعيت للعمل تحت رئاسته فلم توافق فى البداية. لكنها فى النهاية استسلمت بعد أن أقنعها مانينج بأن ذلك هو السلاح الوحيد الذى يمكن أن يوقف زحف الفوهرر الألمانى الذى كانت تمقته. وبحلول عيد الميلاد عام 1944 كانت الولايات المتحدة تمتلك بفضل كارست ما يقارب 10000 «وحدة» من الغبار المشع الذى تكفى الوحدة منه لقتل ألف إنسان عبر تشتيت عادى لهذا الغبار. ومن ثم صار ممكنا قتل جميع سكان مدينة كبيرة كبرلين وتحويلها إلى مقبرة مهجورة.
بعد سنة من العمل مطلق السرية فى هذا السلاح الجديد استطاع مانينج فى عام 1945 اقناع الرئيس الأمريكى باستخدام الغبار المشع ضد ألمانيا لإجبارها على إيقاف الحرب. وبما أن أمريكا لم تكن منخرطة فى الحرب آنذاك فقد اتُفق على جعل البريطانيين هم من ينشرون الغبار مقابل قبولهم بهيمنة أمريكية كاملة على عالم ما بعد الحرب. وبالفعل تم تسليم عبوات الغبار المشع للبريطانيين بمعية راوى القصة الذى اختير مندوبا رسميا عن الرئيس الأمريكى بترشيح مانينج. وقامت طائرات بريطانية بغارة لإسقاط الغبار على برلين، وخلال بضعة أيام تحولت عاصمة الرايخ إلى مدينة ميتة، وأعلنت ألمانيا استسلامها فيما نفذت بريطانيا وعد الإذعان للولايات المتحدة. عندئذ تولَى الذعر كل بلدان العالم من السلاح الجديد المميت الكاسح الذى تحتكر أمريكا سره.

* سلام بالقوة والرعب
أصدرت الولايات المتحدة «إعلان سلام» يطالب بالاستسلام الفورى وغير المشروط لبقية دول العالم. وحتى لا يقوم أى بلد بنشر الغبار المميت بالطائرات حتى لو نجح علماؤه فى تصنيعه سرا، تقرر أن تقوم كل بلدان العالم بتسليم كل ما لديها من طائرات عسكرية ومدنية بعيدة المدى للولايات المتحدة، على أن يقتصر الإشراف على أى سفر جوى مدنى مطلوب لإدارة عسكرية يرأسها مانينج تُسمَى «دورية السلام» ويناط بفئة من طياريها المختارين بدقة من بلدان مختلفة بدوريات تفتيش فى السماء لـ«حراسة سلام» أى بلد ما عدا بلدهم، ولا يُسمح بعودتهم إلى أوطانهم الأصلية طوال مدة خدمتهم!
أصبح مانينج الحاكم الحقيقى للولايات المتحدة والعالَم كونه رئيس «دورية السلام» مدى الحياة مع احتكار عالمى للغبار المشع والطائرات التى يمكنها نقله ونشره. وعندما توفى الرئيس الأمريكى عام 1951 فى حادث طائرة وانتُخِب رئيس جديد طالب الأخير باستقالة مانينج وتفكيك إدارته، وعلى الفور ظهرت طائرات محملة بالغبار المشع يقودها غير الأمريكيين فى سماء واشنطن! فقد صار مانينج مستعدا لقتل نفسه ومعاملة عاصمة الولايات المتحدة كما سيعامل أى مكان آخر يعتبره «تهديدا للسلام العالمى»!
فاز مانينج فى المواجهة مع الرئيس الأمريكى المنتخب وأصبح الديكتاتور العسكرى الحاكم للعالم دون منازع. وتنتهى القصة بمسلسل تنتحر فيه الدكتورة كارست بخلع قناعها وثيابها الواقية فى مختبرها لتصنيع الغبار المشع إذ صدمها هول الكارثة التى ساهمت فى صنعها بالعلم الذى كرست حياتها له. ويموت بتأثير الإشعاع الطيارون البريطانيون الذين قاموا بغارة نشر الغبار القاتل دون اتخاذ احتياطات وقائية لم يصدقوها، ومثلهم يموت الطياران اللذان قادا طائرتيهما على ارتفاع منخفض لتصوير موت المدينة المنكوبة لتخويف العالم.

* الحكم فى آخر القصة؟
وفيما كان راوى القصة يحتضر متأثرا بالتسمم الإشعاعى الذى تعرض له أثناء نقله لعبوات الغبار المشع إلى البريطانيين. يفكر فى مانينج الذى كان يحبه وكيف صار «أكثر إنسان مكروه على وجه الأرض». وكيف أنه لا توجد طريقة لمعرفة المدة التى سيعيشها هذا المكروه، نظرا لضعف قلبه. ويعترف:
«بالنسبة لى: لا يمكننى أن أكون سعيدا فى عالم يتمتع فيه أى رجل أو مجموعة من الرجال باحتكار قوة الموت على كل إنسان وكل حيوان وكل كائن حى. لا أحب أن يمتلك أى شخص هذا النوع من القوة. حتى مانينج».
وبالنسبة لنا: أمام تجليات النبوءة التى لاحت فى واقع «القنابل القذرة» بكل أطيافها، وبكل تفاقماتها الممكنة فى الحاضر وفى المستقبل، بديهى أن نعلن ليس فقط عدم سعادتنا بذلك، بل رفضنا لكل ما يتشابه مع ذلك. وبكل قوة السلام النابذ لكل القنابل القذرة. وهل هناك قنابل نظيفة؟!
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
* النص: بالتنسيق مع مجلة «للعلم» (forscience.com) ــ الطبعة العربية المصرية لمجلة Scientific American



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك