- إطلاق «وثيقة القاهرة» كأول مرجعية عالمية لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعى فى الإفتاء
- الفتوى ليست إجابة نصية ولا معلومة من قاعدة بيانات ولا يمكن استبدال البشر بالآلة فى الإفتاء
- لا نحتاج إلى التنكر لهويتنا لكى نخاطب الآخر بل نحتاج إلى تجويد خطابنا بلغة عقلانية منفتحة إنسانية
أعلن مفتى الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، الدكتور نظير محمد عياد، إطلاق «وثيقة القاهرة حول الذكاء الاصطناعى والإفتاء»، كأول مرجعية عالمية لتنظيم استخدام هذه التقنية فى المجال الدينى، مؤكدًا أن الفتوى لا يمكن أن تتحول إلى مجرد مخرجات رقمية تُستخلص من قواعد بيانات.
وأوضح عياد، فى حواره مع «الشروق»، أن المؤتمر الدولى العاشر للإفتاء، المنعقد تحت عنوان «صناعة المفتى الرشيد فى عصر الذكاء الاصطناعى»، فى 12 و13 أغسطس الحالى، يمثل نقلة نوعية فى التعامل مع التحولات التقنية، ويسعى إلى صياغة نموذج عالمى للمفتى القادر على الجمع بين التأصيل الشرعى والوعى التقنى والإنساني.
وإلى نص الحوار..
< ما دلالات عنوان المؤتمر لهذا العام «صناعة المفتى الرشيد فى عصر الذكاء الاصطناعى»؟
ــ الذكاء الاصطناعى نمط جديد فى إنتاج المعنى والمعرفة، ولهذا كان لابد من إعادة بلورة دور المفتى وسط هذه التحولات، ومن هنا جاءت فلسفة عنوان وموضوع المؤتمر لتعيد تعريف «الرشد الإفتائى»، ليس كمرادف للحفظ أو المعرفة النصوصية فقط، بل كحالة من الوعى المركب الشرعى، والواقعى، والتقنى، والإنسانى.
نسعى من خلال المؤتمر إلى بلورة نموذج للمفتى الرشيد يجمع بين التأصيل الشرعى والقدرة على التعامل مع بيئة رقمية مليئة بالتحديات والاحتمالات، وتمكين المؤسسات الإفتائية رقميًا، بحيث لا تكتفى بالتفاعل، بل تبادر بإنتاج أدوات ومؤشرات تقيس الأثر وتسهم فى الحوكمة الرشيدة، وبناء أطر أخلاقية للتعامل مع الذكاء الاصطناعى، خاصة فى ظل ظهور فتاوى آلية، وخوارزميات قد تحمل انحيازات.
< ما المقصود بـ«المفتى الرشيد»؟ وما المهارات الجديدة التى ينبغى للمفتى أن يمتلكها ليكون فاعلًا؟
ــ الرشد هو القيمة التى تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين العلم والحكمة، والفهم والرحمة، واختيار مصطلح «المفتى الرشيد» لم يكن قرارا لغويًا أو تسويقيًا، بل اختيار مفاهيمى عميق، نابع من رؤية شرعية تتجاوز الانبهار بالتقنية، وتسعى إلى بناء عقل إفتائى متزن جامع بين الشرع والعصر، فنحن لا نريد مفتى يعرف كيف يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي، بل نريده يحكم استخدامه بتقوى، وبصيرة، ومقصد، ومصلحة.
والرشد فى القرآن الكريم ليس مجرد نضج فكرى، بل مقام من مقامات التوازن والتكليف الشرعى، وفى ذلك قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، وهذا يدل على أن الرشد شرط للتصرف فى المال، فكيف لا يكون شرطًا للتصرف فى الدين والفتوى؟
لذلك، نحن لا نكتفى بـ«مُفْتٍ رقمى» يعرف أدوات التحليل والرد عبر التطبيقات، ولا بـ«مُفْتٍ عصرى» يتابع المستجدات السريعة، بل نحتاج إلى «مُفْتٍ رشيد» يوازن بين المقاصد والمصالح، ويقدر فقه المآلات، ويبصر أثر الفتوى على الفرد والمجتمع والدولة.
< كيف تُعد المؤسسات الإفتائية جيلًا من المفتين القادرين على الفتوى الرقمية الممنهجة؟
ــ ينبغى على المؤسسات الإفتائية اعتماد منهجية تأهيل متكاملة، ترتكز على ترسيخ التأصيل الشرعى العميق، وفهم فقه الواقع والمآلات، إلى جانب التدريب العملى على أدوات التكنولوجيا الحديثة، ويعد دمج التكنولوجيا فى التعليم الإفتائى عاملا مساعدا، وليس بديلا عن المرجعية العلمية، إذ تستخدم لتقديم نماذج تدريبية تحاكى بيئة الفتوى الرقمية وتساعد على تحليل الأسئلة وتتبع السياقات.
كما يجب بناء وعى أخلاقى ومهنى لدى المفتى الجديد، من خلال مدونات سلوك واضحة وإشراف علمى مستمر، يحصنه من الانزلاق نحو فتاوى سطحية تحت ضغط المنصات أو الرغبة فى الظهور، وتكمل الصورة بالاستفادة من التجارب الدولية الناجحة فى إعداد المفتين، لتبادل الخبرات وصياغة نماذج عالمية تراعى التعدد الثقافى وتلتزم بالضوابط الشرعية.
< هل يمكن استبدال الفتوى الآلية بالفتوى البشرية؟ وهل لدار الافتاء تجربة أو محاولة لتغذية الذكاء الاصطناعى بالمعلومات الصحيحة؟
ــ لا يمكن استبدال الفتوى الآلية بالفتوى البشرية؛ لأن الفتوى ليست مجرد إجابة نصية أو معلومة تستخرج من قاعدة بيانات، بل عملية اجتهادية مركبة، تتطلب عقلا بشريا مؤهلًا قادرًا على فهم النصوص الشرعية فى ضوء الواقع المتغير، ومراعاة المقاصد وتقدير المآلات، وهى أمور يعجز الذكاء الاصطناعى عن الإلمام بها بشكل شامل.
من الناحية الشرعية، ثمة حدود لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى فى المجال الإفتائى، إذ يمكن توظيفه كمساعد ذكى يدعم المفتى فى جمع المعلومات، وتحليل الأسئلة، وتنظيم الفتاوى، لكنه لا يملك الأهلية لإصدار الأحكام الشرعية أو تقديم فتاوى نهائية، وهو ما يضمن الحفاظ على القيمة الإنسانية والأخلاقية لصناعة الفتوى.
< هل يمكن إصدار «ميثاق إفتائى رقمى» يحدد ضوابط الفتوى فى عصر الذكاء الاصطناعى؟
ــ تستعد الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم بالفعل لإصدار دليل إرشادى عالمى لصناعة المفتى الرشيد فى عصر الذكاء الاصطناعى، يتضمن المعايير الشرعية، والمهارات الرقمية والأخلاقية اللازمة، وأدوات التعامل مع قضايا العصر الرقمى؛ كما نستعد أيضا لإطلاق «وثيقة القاهرة حول الذكاء الاصطناعى والإفتاء» وهى أول وثيقة شاملة تصدر على المستوى العالمى لتنظيم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى فى المجال الإفتائى، تتعامل الوثيقة مع هذه الظاهرة باعتبارها تهديدا مباشرا للعقيدة والدين ووعى الناس، خصوصا مع تصاعد قدرات الذكاء الاصطناعى فى إنتاج محتوى مزيف «نصا وصوتا وصورة»، وقد يُنسب زورا إلى علماء أو مؤسسات معتبرة.
< ما موقع هذه الوثيقة من خارطة التحولات الإفتائية فى العالم الإسلامى؟
ــ وثيقة القاهرة للفتوى الرشيدة ليست مجرد بيان ختامى يعلن فى مؤتمر ثم يطوى فى الأدراج، بل تبنى لتكون مرجعية معيارية تسعى إلى ضبط الأداء الإفتائى عالميًا وفق قواعد العلم والضمير، فهى ثمرة نقاشات ممتدة، بين علماء الشريعة وصناع السياسات الدينية، وبين ممارسى الفتوى وخبراء التكنولوجيا، وبين الشرعيات الوطنية والهيئات العابرة للحدود.
وستعكس تحولًا نوعيًا فى الفقه المؤسسي، إذ تستوعب التحديات المعاصرة، من الفتوى عبر الوسائط الرقمية، إلى قضايا التلاعب بالمعلومة، والسلطة الرمزية فى الفضاء العام، وهى أيضا محاولة لصياغة «دستور أخلاق» للفتوى الرشيدة، يبنى على ضوابط التحقق والمرجعية والتخصص، ويجمع بين الأصالة الفقهية والانفتاح على المعايير الدولية للخطاب الدينى المسئول.
< ما الذى يميز مركز الليث بن سعد لفقه التعايش والمزمع إطلاقه ضمن أعمال المؤتمر؟
ــ إطلاق مركز الإمام الليث بن سعد لفقه التعايش ليس مجرد استحداث إدارى لمركز بحثى جديد، بل تأسيس لمنصة معرفية تستلهم التراث المصرى الأصيل فى التعدد والعيش المشترك، وتعيد تقديمه للعالم من بوابة الفقه، وقد اختير اسم الإمام الليث بن سعد لما يمثله من رمزية علمية وتاريخية، كعالم مصرى جسد فقه التسامح والانفتاح، وتوسيع دوائر العمل بالمصالح المرسلة واعتبار الأعراف.
ويهدف المركز لتقديم فقه يُعلى من شأن «فقه الواقع التعددى»، ويعتمد على قراءة مقاصدية تواكب تحديات اليوم، من قضايا الهجرة والاندماج، إلى العنف الدينى وخطاب الكراهية، ويأتى فى لحظة دولية حرجة تتطلب إنتاج خطاب دينى مؤسسى لا يكتفى برد الفعل، بل يبادر بتقديم رؤية للعالم قائمة على العدل والكرامة والاعتراف بالآخر.
< كيف يمكن لمؤسسة فتوى وطنية صياغة خطاب له تأثير عالمى؟
ــ هذا سؤال مفصلى؛ نحن فى دار الإفتاء المصرية نؤمن أن الهوية المحلية الراسخة هى التى تؤسس للتأثير العالمى الرصين، لا نحتاج إلى التنكر لهويتنا لكى نخاطب الآخر، بل نحتاج إلى تجويد خطابنا بلغة عقلانية، منفتحة، إنسانية.
ومن خلال الأمانة العامة، والمنصات الرقمية، والوثائق الدولية التى أصدرناها، استطعنا أن نبنى جسرا حقيقيا بين الفتوى وبين المؤسسات الدولية، بين الاجتهاد العلمى وبين حقوق الإنسان، بين الشريعة وقيم السلام والتعايش.
نحن لا نصدر فتوى، بل نصدر نموذجًا رشيدًا للعالم الإسلامى فى كيفية إدارة الدين فى العصر الحديث.