تمثل ليبيا عمقا إستراتيجيا للأمن القومى المصرى ويوفر الإتصال الجغرافى معها والإتصال الوثيق بين الشعبين المصرى والليبى مصالح مشتركة للبلدين يجب المحافظة عليها ودعمها إلى أقصى حد، وتضع هذه العوامل نفسها فى كل بلد فى مقدمة أولويات السياسة الخارجية للبلد الآخر. فقد لعبت مصر حكومة وشعبا دورا مهما فى دعم النضال الوطنى الليبى ضد الإستعمار الإيطالى حتى أن الأخير إضطر فى فترة من الفترات إلى بناء سور شائك على طول الحدود بين البلدين للحيلولة دون وصول الدعم المصرى إلى حركات الجهاد الليبى أو تسلل عناصر الجهاد إلى عمق الأراضى المصرية للإحتماء بها.
ولقد حرصت قوى الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على توظيف موقع ليبيا لخدمة مصالحها الإستراتيجية على مستوى منطقة الشرق الأوسط وعلى المستوى العالمى، فأقامت الولايات المتحدة الأمريكية قاعدة عسكرية جوية ضخمة فى طرابلس بإسم قاعدة " هويلس " ـ أصبح إسمها بعد الثورة قاعدة عقبة بن نافع ـ وأقامت بريطانيا قاعدة جوية بحرية فى ميناء طبرق أطلقت عليها إسم قاعدة "العضم" ـ أصبح إسمها بعد الثورة قاعدة جمال عبد الناصر ـ والقاعدة الأخيرة قدمت العديد من التسهيلات وأوجه الدعم للتحركات البريطانية أثناء العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956.
لكن الوجود العسكرى الغربى لم يكن مقتصرا على القاعدتين بل إنتشر فى كل ربوع ليبيا فى شكل مئات من ممرات الهبوط التي تستخدمها القوات الجوية الأمريكية الموجودة فى أوروبا فى تدريباتها، فقد كانت هذه القوات ترى فى الظروف الجغرافية والمناخية فى ليبيا أكثر الأجواء ملاءمة للطلعات الجوية التدريبية لطائراتها كما كانت الموانىء الليبية الرئيسية فى طبرق وبنغازى وطرابلس موظفة بالكامل للقوات البحرية البريطانية والأمريكية فى البحر الأبيض وفى جنوب أوروبا.
يضاف إلى ذلك سيطرة بريطانية وأمريكية كاملتين على الجيش وأجهزة الأمن والشرطة فى ليبيا فى شكل مستشارين وبعثات تدريبية وتحكم فى التسليح والتنظيم الداخلى لهذه القوات وإستقطاب كامل لقياداتها.
وأكثر من ذلك فقد حرصت هذه القوى على ضرب سياج محكم حول النظام الملكى الذى قام فى ليبيا بعد الإستقلال وبخاصة فيما يتعلق بدوره العربى وعلاقاته بالدول العربية، فكان الصوت الليبى غائبا بإستمرار سواء فى جامعة الدول العربية أو خارجها، وتحولت ليبيا إلى ما يشبه المنطقة العازلة بين مشرق العرب ومغربهم برغم أن موقعها الجغرافى وتراثها الحضارى والتاريخى كانا يؤهلانها لدور عكسي، أى معبرا وجسرا نشيطا بين طرفى الأمة العربية فى المشرق والمغرب، بل ومدخلا إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء بما يمكن أن يمثله ذلك من عنصر دعم إيجابى للأمن العربى بوجه عام.
لكن ثمة حقيقة مهمة تبرز برغم كل العوامل السابقة ، وهى أن هذه القوى لم تستطع أن تحول دون وجود حركة نشيطة وإتصال عميق بين الشعب الليبى وبين الشعوب العربية المجاورة له وبخاصة الشعب المصرى، ففى المنطقة الشرقية فى ليبيا والمعروفة بإسم "برقة"، كان هناك تداخل شديد بين الشعب الليبى فيها والشعب المصرى حيث يتلقون تعليمهم ويمارسون تجارتهم في مصر، ويصاهرون من أبناء الشعب المصرى فى حرية كاملة، وعندما كان أحدهم يقول أنه "مسافر" كان يفهم على الفور أنه مسافر إلى مصر، ويوجد حتى اليوم إمتدادات للعائلات الليبية فى الإسكندرية ومحافظات البحيرة والفيوم والمنيا علاوة على مناطق الحدود فى مرسى مطروح والسلوم والواحات، هذا بالإضافة إلى انتشار القبائل من "أولاد علي" فى المنطقة الممتدة جغرافيا من غرب مصر ومصر الوسطى حتى العمق فى داخل الأراضى الليبية.
ومن جانب آخر لم تكن الساحة الليبية منعزلة عن التيارات السياسية والثقافية التى ظهرت فى الوطن العربى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. فقد شهدت إمتدادات لكل هذه التيارات التى جاء معظمها من المشرق العربى فكانت هناك عناصر تنتمى للتيار الوطنى القومى، وآخرين ينتمون للقوميين العرب أو للبعث وفريق رابع ينتمى لجماعة الإخوان المسلمين، وآخر للشيوعيين، وكانت كل هذه المجموعات ضعيفة الوزن إلى حد كبير، وتمارس أنشطتها فى الغالب فى الإطار الثقافى أو بطريقة سرية، فقد كانت الأوضاع السياسية بما فى ذلك مؤسسات التمثيل النقابى تحت السيطرة الكاملة للحكم وبالتالى للنفوذ الأجنبى، لكن ذلك لم يمنع من كونها موجودة.
لكن ثمة فريق آخر كان يحظى بإحترام الجميع من قوى داخلية أو خارجية وهو التيار الوطنى الليبى الذى كان يمثل رمز الجهاد الوطنى الليبى ضد المحتل الأجنبى والذى كانت عناصره تنضوى تحت اسم "جماعة عمر المختار"، ذلك المجاهد الليبى العظيم، وقد حرص قادة هذه الجماعة فى ظل النظام الملكى على توثيق علاقاتهم بالرئيس جمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو1952، وكان يجرى الإلتقاء بهم مجتمعين أو فرادى من وقت لآخر بإعتبارهم عناصر وطنية مخلصة برهنوا بحق على نزاهتهم وإخلاصهم للفكرة القومية بوجه عام والرغبة فى أن تمارس ليبيا دورا أكثر حيوية فى النضال القومى العربى. وكان من أبرز العناصر القيادية التى حرصت على استمرار العلاقة مع عبد الناصر الأستاذ مصطفى بن عامر والأستاذ بشير المغيربى بالإضافة إلى مجموعات أخرى من العناصر الوطنية من ضمنها إبراهيم الغويل، وعلى وريث، وآخرين.
أدركت مصر هذه الحقائق على إختلاف الفترات التاريخية كما إستوعبها جيدا قادة ثورة يوليو 52 والتى قامت فى أعقاب إستقلال ليبيا بفترة قصيرة.
وتجدر الإشارة إلى أن بترول ليبيا لم يساهم بنصيب ملموس فى دخلها القومى إلا فى بداية الستينات، وحتى هذا التاريخ كان هناك إعتمادا سنويا يدرج فى الموازنة السنوية المصرية كمعونة لليبيا لتمويل عدد من البعثات المصرية العاملة فيها فى مجال التعليم والقضاء والوعظ الدينى ومجالات أخرى كثيرة.
ورغم إدراك الرئيس جمال عبد الناصر لحجم الخطر الذى يمثله النفوذ الأجنبى المسيطر فى ليبيا ، لم يشأ أن يصطدم بالنظام الملكى هناك، وكان يحرص دائما على إقامة علاقات هادئة بعيدة عن التوترات مفضلا أن يأتى الحكم عليه من داخل الشعب الليبى نفسه. وربما كان الإستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو ما حدث فى يوليو1964، ففى هذا التاريخ كان يحل موعد تجديد إتفاقية القواعد الأمريكية والبريطانية، وكانت الحجة التى قدمها المسئولون الليبيون للتوقيع على إتفاقية القواعد هو تأمين الحصول على بضعة ملايين من الدولارات لصالح الموازنة الليبية، لكن الدور الذى لعبته هذه القواعد على الصعيد الوطنى والقومى كان دورا سلبيا للغاية، وبعد ظهور البترول وتوفر مصادر الدخل لليبيا لم تعد هناك حاجة لهذه الملايين القليلة التى تأتى من القواعد، ومن هنا فقد أطلق الرئيس عبد الناصر نداء فى خطابه بمناسبة إحتفالات الثورة فى عام 1964 لمطالبة الملك إدريس السنوسى ملك ليبيا بعدم تجديد هذه الاتفاقيات، وأحدث هذا النداء ردود فعل عنيفة للغاية فى داخل ليبيا، فالنظام الملكى الذى تربطه مع الغرب علاقات تحالف بل وتبعية كاملة لم يكن فى نيته الإستجابة لهذا النداء ولا يقدر على ذلك بحكم تكوينه وفكره السياسى ، لكن الشعب الليبى كان له موقف آخر فإنفجرت المظاهرات وتصاعدت الأصوات المطالبة بعدم تجديد الإتفاقيات الخاصة بالقواعد الأجنبية، ووجهت بقمع شديد شاركت فيه قوات الجيش والشرطة . ورغم أن تجديد الإتفاقيات قد تم توقيعه فيما لا يزيد على عشرة دقائق فى لقاء الوفود الرسمية إلا أن الشعب الليبى كان قد عبر عن معدنه الأصيل، وأنه لم ولن ينعزل عن أمته العربية تحت أية ظروف.
وقد عبر الشعب الليبى عن هذا المعدن الأصيل فى أكثر من مناسبة أخرى . ففى فترة حرب التحرير الجزائرية كان الشعب الليبى خير عون للحركة الوطنية الجزائرية بقيادة أحمد بن بيلا ، وأمكن بمعونته ودعمه تقديم العديد من التسهيلات وألوان الدعم بكافة أشكاله لهذه الحركة ، كما احتضن الشعب الليبى أكثر من مؤتمر عام لجبهة التحرير الوطنى الجزائري وأحاط قياداتها وأعضاءها بالعطف والرعاية والحماية علاوة على المساهمة الإيجابية الفعالة فى تمرير وتهريب الأسلحة والأفراد عبر الأراضى الليبية من مصر إلى الجزائر أو عن طريق إنزال بعض السفن المحملة بالأسلحة والذخائر على السواحل الليبية ليتم توصيلها بعد ذلك إلى أرض المليون شهيد .
وكانت الجماعات الوطنية والقومية الليبية قد عبرت بصدق عن أصالة هذا الشعب إبان العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956 عندما ساهمت مختلف الطوائف فى التعبير المعنوى والمادى بتفجير أنابيب البترول علاوة على بعض العمليات ضد القواعد الأجنبية فى مختلف أنحاء الأراضى الليبية وترتب على ذلك إستشهاد وجرح أخوة ليبيون تماما كما حدث بطريقة تلقائية فى باقى أنحاء الوطن العربى.
وكانت ردود فعل عدوان 1967 داخل ليبيا تعبيرا جديدا عن أصالة الشعب الليبى الذى تصاعدت مطالبته من خلال المظاهرات والكتابات والمؤتمرات بضرورة الوقوف فى مواجهة العدوان، ومرة أخرى وجد النظام السياسى نفسه فى مأزق إضطر معه أن يجرى بعض التعديلات الشكلية فى الوزارة وقيادة الجيش والأمن لإحتواء الشعور الشعبى الجارف.
لكن هذه الإضطرابات الأخيرة دفعت القوى المستفيدة من الوضع الليبى والمسيطرة على قراره أن تعد عدتها للمستقبل فاتجهت لتكوين بعض المجموعات من داخل النظام نفسه لتكون بديلة للسلطة الحاكمة إذا ما اقتضت الظروف ذلك ، على أن يتم التنفيذ من خلال "انقلاب القصر" الذى كان يهدف إلى تقديم وجوه جديدة دون التخلى عن الركائز الأساسية التى يقوم عليها النظام، وكان فى مقدمة المتصدرين لهذا النهج عبدالعزيز الشلحى رئيس الأركان العامة للجيش الليبى والمعروف بروابطه القوية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت كل الدلائل تشير إلى إعداده لتنفيذ "انقلاب القصر" فأخذ يوسع من إتصالاته داخل الجيش وقوى الأمن الداخلى والزعامات القبلية وكبار الرأسماليين والتجار الليبيين ذوى النفوذ.
لكن الجيش الليبى كان له رأى آخر، فلم يكن هذا الجيش منعزلا عما يجرى فى المنطقة أو غائبا عما يجرى فى ليبيا، ومن ثم تكون داخل الجيش أكثر من تنظيم وطنى يعمل كل منها دون معرفة أو صلة بالآخرين بهدف تنفيذ التغيير فى الوقت المناسب.
وكانت القاهرة ترصد ما يجرى على الساحة الليبية بالتفصيل، وكانت لديها علاقاتها الرسمية وغير الرسمية مع كل القوى السياسية والشعبية فى الداخل، وكانت غالبية القوى الوطنية تتطلع إلى القاهرة كزعامة للتيار القومى والتحررى، ولم يكن من منطلق تبعية بأى حال بل على أساس مبدئى وأخلاقى وتلاقى فى الأهداف والآمال والأحلام الكبرى للشعب العربى من المحيط إلى الخليج.
وأذكر هنا أنه فى لقاء عقده الرئيس جمال عبد الناصر مع سفيرنا فى ليبيا فى تلك الفترة، أى بعد عدوان 1967 أن ركز السفير فى حديثه على الشكوى من الملك والقيادة السياسية فى ليبيا وعمالتهم للاستعمار وعدائهم للثورة العربية إلى آخر ذلك من الأفكار، فرد عليه الرئيس عبد الناصر بجملة حاسمة: "ركز انت على العلاقات وسيب لى أنا السياسة".
فنظر السفير إليه مستفهما عما يقصده الرئيس، فاستطرد الرئيس عبد الناصر قائلا: "إن مهمتك كسفير هو تنمية التبادل التجارى مثلا بين البلدين وتسهيل حركة وتنقلات أفراد البلدين فى البلد الآخر، وأما ما يتعلق بتوجهات النظام أو أفكاره السياسية فلا شأن لك بها".
كان هذا هو منهج الرئيس عبد الناصر ـ لم يقبل فى يوم من الأيام أن تتدخل سفارة مصرية أو أى من أعضائها فى شئون الدولة المعتمدين لديها بأى شكل.. فمثلا عندما أبلغه الملك سعود فى عام 1957 أن أحد أعضاء السفارة المصرية يعد مجموعة للإنقلاب على الحكم فى السعودية طلب إليه الرئيس عبد الناصر أن يحاكم الدبلوماسى المصرى كما يحاكم بالضبط أى عنصر سعودى متآمر، وكانت هذه الواقعة نتيجة دسيسة أمريكية أنتجت آثارها لدى الأشقاء فى المملكة العربية السعودية، وتلك قصة أخرى.
وللحديث بقية..