ودع الوسط الثقافى العربى الشاعر والمثقف الفلسطينى مريد البرغوثى، الذى رحل عن عالمنا أمس الأول الأحد، عن عمر ناهز الـ77 عامًا، بعد حياة حافلة قدم خلالها 12 ديوانا شعريا، وكتابين نثريّين يرويان أجزاء من سيرته الذاتية وهما «رأيت رام الله» و«وُلِدْتُ هُناك، وُلِدْتُ هُنا» الصادرين عن دار الشروق، وغير ذلك من المؤلفات والمقالات التى أثرى بها الحياة الثقافية والسياسية العربية.
فى 8 يوليو 1944، وسط قرية دير غسانة قرب رام الله فى الضفة الغربية، ولد مريد البرغوثى، وتلقى تعليمه فى مدرسة رام الله الثانوية، وسافر إلى مصر العام 1963 لاستكمال التعليم الجامعى بكلية الآداب فى قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، وفاءً لعهده مع أمه بأن يكون أول ولدٍ جامعى من أولادها.
♦ «ذهاب بلا عودة»
لم يخطر ببال مريد البرغوثى وهو يعبر جسر رام الله إلى عمّان ومنها إلى مصر، لاجتياز امتحانات السنة النهائية بالجامعة ونيل الشهادة والعودة إلى أرضه ووالديه اللذين شرعا فى طلاء المنزل بعمارة اللفتاوى استعدادًا لعودته، أن رحلته ستصبح رحلة ذهاب دون عودة، لكنها الحقيقة التى أعلنها الإذاعى أحمد سعيد عبر أثير صوت العرب. «من هنا من إذاعة صوت العرب قال لى أحمد سعيد إن رام الله لم تعد لى وأننى لن أعود إليها، المدينة سقطت. توقفت الامتحانات لأسابيع استؤنفت الامتحانات، نجحتُ وتخرجتُ. حصلت على ليسانس من قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، وفشلت فى العثور على جدار أعلقُ عليه شهادتى.. فى ظهيرة ذلك الاثنين، الخامس من حزيران 1967 أصابتنى الغربة».
♦ «اعتذار إلى جندى بعيد»
فى الجامعة كتب البرغوثى قصائده، عرف الزملاء وبعض الأساتذة أنه يكتب الشعر، رفيقته رضوى تؤكد أنه سيصبح شاعرًا ذات يوم، يتخذ قراره ويرسل إلى الأستاذ فاروق عبدالوهاب رئيس تحرير مجلة المسرح إحدى قصائده بعنوان «اعتذار إلى جندى بعيد»، تنشر القصيدة فى صبيحة الاثنين 5 يونية 1967، ليظل الشاعر يتندر طوال عمره على تلك الصدفة التى اتخذت من تاريخ أول انتصاراته ذكرى مريرة لهزيمة أمته: «تُرى هل انهزم العرب وضاعت فلسطين لأننى كتبت الشعر؟».
وعلى درج مكتبة جامعة القاهرة، يجتمع الطالبان رضوى عاشور ومريد البرغوثى، يقرأ لها قصائده وتسرد عليه نصوصها، «كنا طالبين محترفين، نتحدث عن شئون الدراسة ولا نتجاوزها إلى أى موضوع حميم. استمرت اللغة الأخوية والروح الندية بيننا إلى أن انتهت سنوات الدراسة الأربع. غادرت لأعمل فى الكويت. كنت أكتب لها ولأمينة صبرى وأميرة فهمى، رسائل منتظمة عن حياتى الجديدة فى الكويت، فهذه هى شلتنا طوال الدراسة، كنا أشبه بعائلة صغيرة. لكنى اكتشفت أن رسائلى لرضوى تخلو من أخبارى ووقائع حياتى وتقتصر على إحساسى الصامت بتلك الحياة. عندما التقيتها فى أول زيارة للقاهرة وجدنا أنفسنا نتحدث كأم وأب وأحيانًا كجدَِة وجد. كنا نتحدث كأسرة من شخصين تكونت من زمان. لم نتبادل أى غزل أو عرض أو طلب أو قبول أو وعود، عندما غادرت القاهرة وعدت للكويت وجدتنى أراسلها كزوجة ووجدتها تراسلنى كزوج».
♦ «رأيت رام الله»
فى كتابه «رأيت رام الله» الصادر عن دار الشروق، والحائز على جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبى عام 1997. يروى الشاعر الفلسطينى مقتطفات من سيرته الذاتية الممزوجة بالسيرة الذاتية لوطنه «فلسطين ــ مصر»، الذى مُنع من العيش فيهما، يحكى عن خروجه من دير غسانة، وانتظاره ثلاثين عامًا حتى العودة، يروى كيف أُبعد عن زوجته وابنه ومصر لسبعة عشرة عامًا، وكيف صار العالم يسميه وغيره من الفلسطنيين «نازحين» بعد احتلال بلاده، يحكى لماذا رفض الانتماء إلى أحزاب سياسية، وكيف ضاعت القضية الفلسطينية».
♦ «12 ديوانا شعريا وكتابان نثريان»
وبعد خمس سنوات من نشر قصيدته الأولى «اعتذار إلى جندى بعيد» نشر مريد أول ديوانِ له فى بعنوان «الطوفان وإعادة التكوين»، وفى العام 1974 نشر ديوانه الثانى «فلسطينى فى الشمس»، وبعد ذلك بثلاثة أعوام نشر ديوان «للفقر المسلح» أعقبها بديوان «الأرض تنشر أسرارها» عام 1978 بعد عامين أصدر البرغوثى ديوان «قصائد الرصيف» ردًا على ترحيله من مصر خلال فترة الرئيس أنور السادات وزيارته للقدس وموقف مُريد الرافض لهذا الأمر.
♦ «لكل المقهورين أجنحة.. وفاءً لرضوى»
وقضى مريد البرغوثى وابنه تميم عامًا بين البحث والتقصى وراء ما تركته الأديبة الراحلة رضوى عاشور، فى أوراقها ومقالاتها المنشورة فى الصحف العالمية، وبمساعدة الأصدقاء، استطاعا أن يجمعا ما كتبته فى كتاب اختارا أن يكون عنوانه «لكل المقهورين أجنحة»، الصادر عن دار الشروق فى ذكرى رحيلها، وفى مقدمة الكتاب كتب مريد يقول: «بقراءة هذا الكتاب تتضح لكنّ ولكم صورة رضوى عاشور فى أدق تفاصيل نبلها وروعة تنوعها. هذا جمال ضد القبح. «ابتسامتها رأى، وموضع خطوتها رأى، وعناد قلبها رأى، وعزلتها عن ثقافة السوق رأى. رضوى جمال رأيها ورأيها جمالها».
♦ «حياة حافلة ورحيل هادئ»
مريد البرغوثى الذى رحل عن عالمنا مساء الأحد 14 فبراير، شارك فى عدد كبير من اللقاءات الشعرية ومعارض الكتاب الكبرى فى العالم. وقدم محاضرات عن الشعر الفلسطينى والعربى فى جامعات القاهرة وفاس وأكسفورد ومانشستر وأوسلو ومدريد وغيرها. وتم اختياره رئيسا للجنة التحكيم لجائزة الرواية العربية لعام 2015. كما حصل مريد البرغوثى على جائزة نجيب محفوظ للآداب عن كتابه «رأيت رام الله»، وفى العام 2000 على جائزة «فلسطين» للشعر.