- نعيش ثقافة تقدس الماضى وكل ما تم الاتفاق عليه
ـ الفن ينطلق من المأزق الوجودى للإنسان
ـ أحب اختبار الأدب التجارى فى سياق من الأفكار الكبرى
«ماكيت القاهرة» رواية طارق إمام الصادرة عن دار المتوسط، العام الماضى، والتى وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية أخيرا، تستدعى قراءتها عدة تأويلات فى ظل قراءة معقولة للرواية من القارئ العربى وليس المصرى فقط. تحرك الكاتب طارق إمام فى متن هذه الرواية بحرية من خلال موقعيه ككاتب وناقد على حد سواء، وطرح جميع أسئلته تجاه تجربة الوجود، أو تجربة الفن، أو تجربة الحرية..!
وفى حواره لـ«الشروق» يناقش بعضا من أسئلته ربما بطرح مزيدا من الأسئلة..!
* اختيارك لشخصيات الرواية بصفتهم جميعا فنانين، وكذلك اختيار المنهج وموضوع الصراع، تعد مواقف واضحة وممارسة واعية.. هل توافق على هذا؟
ــ نعم أوافق.. كون الفن موضوعا للفن فى نصوصى هذا هاجسى وأمارسه بوعيٍ تام.. سؤال كيف يرى الفن نفسه سؤال جوهرى فى فنى أيضا؛ لأنى لا أرى النص منبتا عن مجمل سياقاته.. الفن موضوع للفن؛ لذلك اختيار أبطالى كفنانين استمرار لخط موجود بمشروعى الروائى.
* أبطال هذه الرواية كان الوجود بالنسبة لهم محنة، فما موقفك من الوجود؟
ــ هو نفس موقفهم.. إذ إن الفن فى تصورى ينطلق من مأزق الإنسان الوجودى، وإذا انتفى هذا المأزق أعتقد ألا يكون هناك فن.. ويتضمن مأزق الإنسان من الوجود أسئلة الموت و الشيخوخة، الوحدة، التغيير، المقاومة، السلطة.. حتى الأسئلة التى قد تبدو لحظية مثل علاقة الفرد بالسلطة.. ثورة يناير مثلا فى الرواية هى لحظة تاريخية ولكن بالتأكيد لها علاقة بالوجود.. فكل سؤال آنى هو جزء من سؤال أكبر وهذا الذى أحبه فى الفن أنه يأخذ مجمل الأسئلة التى يحياها الإنسان.. وعلاقة الإنسان بالمدينة سؤال آخر وجودى باعتبار المدينة تمثيلا للوجود.
* وما هو موقفك من المدينة.. هل هو الصدمة كما يصطدم أبطال الماكيت فى كل مواجهة لهم مع وجه المدينة؟
ــ من الأشياء التى أردت أن أهبها لهذه الرواية، فكرة صدمة الفرد فى مواجهة المدينة.. وهى ليست صدمة القروى النازح ولكن صدمة ابن المدينة الذى يطالعها كل يوم فتعيد تعريف نفسها وتغيير وجهها وتجبره على تعريف ذاته.. فى محاولة لإعادة تأويل ما استقر عليه الأدب الواقعى الكلاسيكى أن الصدمة سببها النزوح من الريف أو الحارة أو مدينة أصغر.
وهنا أعود لفكرة البطل الفنان، الذى يكون اغترابه أعمق من الاغتراب المكانى.. فهو طوال الوقت مغترب عن سياق لا يتبنى أفكاره ومغترب عن القطيع.. فقد يمكنه الرسم على الجدار ولكن كل سلطات المدينة لا السياسية وحدها تصدمه بحكمها على هذا الفن.. وتفعل المدينة بالفرد شيئين متناقضين؛ فهى التى تمنح قاطنيها صفة الفردية، أنت فى المدينة حر وتستطيع ممارسة حريتك التى تميزك عن المجموع.. ولكن فى نفس الوقت وعندما تكون مدينة عربية فى عالم ثالث وفى سياق قمعى أو.. أو.. فبقدر ما تمنحك هذه الفردية بيد تنزعها باليد الأخرى.. لأن قانون المدينة سارٍ على الجميع.. ثم أى مدينة أصلا؟ فبداخل القاهرة مجموعة من المدن المتفاوتة، هناك مناطق ريفية وأخرى عشوائية ومناطق تنتمى للقاهرة الارستقراطية وأخرى للطبقة المتوسطة و.. و... وداخل النص أسأل لماذا نبحث عن الانسجام فى مدينة هى متخيلة أصلا بينما المدينة الحقيقية نفسها تعانى عدم الانسجام!
*ممكن أسأل عن علاقتك بالفيزياء؟
ــ ليست لدى أية علاقة أبدا بما يخص الفيزياء.. وقد سئلت هذه الأسئلة من بعض أساتذة الفيزياء فعلا بعد قراءتهم للرواية.
* هل من الممكن أن تصل لمعرفة دقيقة ومحكمة إلى هذا الحد بتخصص دقيق ومعقد كهذا بفطرية؟
ــ فطرية تماما.. أنا لم أكن طالبا جيدا بالعلوم ولا قارئا مهتما بهذه السياقات نهائيا.. وقد يثبت هذا أن الخيال والعلم يلتقيان معا فى نقطة وقد يبدآن من نفس السؤال «ماذا لو» غير أن أحدهما يصل لمعرفة إنسانية والآخر إلى حقيقة تجريبية.
لكن ما يمكننى قوله ولأكن محددا أنه حتى وأثناء تخيلى لهذه العوالم الموازية من الضرورى أن أخلق لها قانونا روائيا يحكمها.. الخيال داخل الرواية لابد أن يؤسس له ويبرر وفق قانون داخل الرواية، قانون فنى يجعل ما لا يمكن تصديقه خارج النص قابل للتصديق!
* أبحث عن مصدر الصورة فى حياتك ومادة هذا الكم المهول من الصور فى نصك؟ حتى إن أبطال الرواية كلهم فنانون بصريون!!
ــ لا أستطيع كتابة نص بدون وجود كود بصرى فى ذهنى.. لا أعرف أن أكتب دون رؤية.. وأحب المشهدية.. أمزج بين التلخيصى والمشهدى ودائما المشهدى أهم.. كما أننى مولع بالفن التشكيلى، والرافد الأساسى لى ككاتب هو بصرى.. أنا متفرج شغوف جدا..!
* فى هذه الرواية جميع الشخصيات قتلة وقتلى فى آن معا! فماذا يعنى القتل هنا؟
ــ القتل بالنسبة لى هو الشكل الأفدح لتعبير الإنسان عن مناطحته للإله. أن يقرر شخص تجريد آخر من روحه أو حتى تجريد نفسه من هذه الروح.. هو تعبير فادح عن التعبير والتغيير باليد.. خاصة وأن من يقتل يعرف أن مصيره للقتل أيضا.
فى هدوء القتلة مثلا كان قتلا وفق العقيدة.. فى طعم النوم تقتل البطلة الرجال فقط.. فى كل مرة للقتل معنى مختلف.. أما هنا فى الماكيت فقتل الأب له منطق فكرى، قتل السلطة وما يتعلق بالثورة فالمعنى ينسحب للسلطة السياسية.. أنا فقط تخيلت أن طفلا يصوب يده تجاه أبيه وهو لا يملك رصاصة وهذا أيضا ما حدث فى يناير، أنها أسقطت سلطة بالتواصل الافتراضى.. انها كرصاصة أوريجا الافتراضية.
وبالنسبة لى للقتل جانب لن أخفيه، أحب الجانب البوليسى فى الحكاية، أحب توظيف أدب الجريمة ليس بمنطقه التجارى الرخيص أو الشعبى ولكن بمزجه مع أشكال أخرى من أدب النخبة الرفيع ذى الأفكار الفلسفية.. أحب فكرة التهجين وأرفض نقاء الأدب وأرى دائما إمكانية للتهجين والتجريب. ستجدى لدى فنون مثل الكوميكس أو الجرافيتى وهى فنون تواصل وسريعة الزوال.. أحب أن أختبرها فى سياق من الأفكار الكبرى.
* يمتلئ النص بالأسئلة الكبرى.. وربما جمع أسئلة نظريات الأدب كلها أو يكاد.. هل تداخل موقعك ككاتب وموقعك كناقد فى خطابات الشخصيات؟
ــ لا، لا أعتقد ذلك.
* إذن فكيف تسمح خلفيات الشخصيات المشوهة بطرح أسئلة نظريات الفن.. ما الذى يدفعهم للبحث فى الماهيات أصلا؟
ــ طبيعتهم كفنانين تبرر كل ذلك.. علاقة الشخصيات بمقولاتها مبررة بخلفياتها الثقافية.. وقد أسست لذلك بحضورهم لبعض الورش الفنية؛ فهم مثل فنانين وسط البلد الذين يقرأون هذه الكتب ويحاولون طرح اسئلتها.. أما درجة علاقة الشخصية بخطابها فهذا موضوع آخر.
كما أن هناك تيارا عالميا فى الكتابة (الرواية النظرية) يطرح أسئلة النقد والأفكار المجردة دون تذويبها فى المتن ومن هنا تأتى فكرة (الميتافيكشن) لأنها تقوم أصلا على تعرية التقنية داخل النصوص وطرح الأفكار مباشرة.
* هذه الرواية متخمة بالأسئلة والتشكيك.. التفكيك والهدم، تصورت فى البداية أن الغاية هى الهدم من أجل إعادة البناء وفق منطق جديد.. إلا أنه وكلما وصلنا إلى مقولة يقينية يتم نسفها من جديد بالمزيد من الأسئلة.. فما هى غاية الأسئلة مادامت لا توصل إلى معرفة؟
ــ هذا ما قصدته تماما.. النضال من أجل الوصول إلى جملة يقينية وفور أن تسطع هذه الفكرة يتم تقويضها تماما.. المحو بنفس معول البناء.. بداية من المدينة وصولا إلى الأفكار لأن هذا هو الشكل الوحيد لخلق صيرورة مع الأفكار.
أحد أسئلة الرواية هو مساءلة الثقافة، نحن نعيش ثقافة تقدس الماضى، تقدس التاريخ، تقدس كل ما تم الاتفاق عليه.. وكل محاولة لمجادلة مقولة مستقرة يصبح تجديف مضاد.. ولذلك البنية الدائرية التى ذكرتيها ليست مجرد شكل فنى إنما تأكيد على فكرة أن الزمن العربى أو المصرى هو دائرى، كل نقطة فيه هى نقطة البداية وكل نقطة فيه هى نقطة النهاية.. نحن لا نتعامل مع الزمن الخطى لأنه تراكمى ومبنى على الافتراض ومن ثم يوصل للتقدم.. بينما نحن نعيد إنتاج أزمنتنا القديمة.. نعيد تدوير الزمن فعليا.. الرواية مستندة على فعل التغيير، هل نمارس فعلا فعل التغيير؟ هل يمارسه الفن؟ أم أننا أسرى؟ وحين نهرب من سلطات المدينة ونلجأ للفن نعثر على سلطة جديدة هى السلطة الجمالية.. لهذا لا فارق بين كل السلطات.. ونضال الإنسان من أجل حريته يكشف له فى النهاية أنه كان يكرس للسجن الذى حُبس فيه!
* ماكيت القاهرة رواية حادة وخالية من الألفة.. انهزامية تعبر عن الغربة وآخرية الذات، أسأل عن إمكانية إقامة تصالح بين فضاء المدينة وفضاء الذات؟
ــ هذا أيضا أحد أسئلة الرواية، من يصنع الآخر.. هل الشخص هو من يصنع المكان؟ نعم بالطبع.. وهل المدينة هى من تصنع الإنسان بداخلها؟ نعم أيضا.. هذا الجدل، لكن من يهزم الآخر؟! انتبهى أن المدينة أيضا نص.. فواقع المدينة شوارع مخططة ومعمار و.. و.. كل شىء فى المدينة هو عنصر أو علامة تكون نصا. والرواية حين تكتب المدينة هى نص يكتب نصا. هل هو صراع أصلا؟ هل ترغب المدينة فى خلق فرد وترغب فى أن تنهيه؟ للمدينة غرورها وكبرياؤها وللفرد أيضا.. هل أغير القاهرة حين أرسم على الجدران أو حين أكتب عنها رواية؟.. لكن القاهرة أيضا تفرض على شروطها حين تغير قوانينها وأصبح أنا نفسى مغترب و لا أستطيع الدفاع عن نفسى ليس فقط أمام ضابط الشرطة أو إمام المسجد و إنما أيضا أمام المواطنين الشرفاء..! سؤال عميق ويسيطر على فى كل رواياتى وحتى فى حياتي!
=======
حين كرّس أفلاطون مصطلح (المحاكاة) كجوهر للفن باعتباره محاكاة لعالم الواقع احتقر دور الفنانين واعتبرهم كَذَبة لأنهم يساهمون في إفساد سعادة الناس بالحقيقة الموجودة فقط في عالم المثل وهو العالم الذي يعد الواقع محاكاة له ابتداءً.. الفن بهذا المعنى يبتعد عن الحقيقة درجتين فأوجب طردهم من جمهوريته.. بينما جعل أرسطو مبدأ المحاكاة هو سبيل الإنسان للتطهر ( الكاثارسيز).. هل تتبنى موقف أفلاطون في هذا النص و لذلك تطارد اللعنة أبطالك إلى نهاية النص وتسحقهم تماماً؟
سؤال المحاكاة نفسه سؤال داخل النص.. هل على الفنان أن يحاكي العالم أم يحوله إلى استعارة؟ هناك مدرستين : المحاكاة التي تنتج كتابة كنائية.. أما الاستعارة فهذا هو المنطق الذي أنتج مدارس تمردت على الرواية الواقعية مثل السريالية و الدادية و الديستوبيا مثلاَ .. كل هذه الأشكال تنتمي للمدرسة الاستعارية التي أدعي انتمائي لها .. ماكيت القاهرة تتحدث عن الواقع، أكيد، بتعميق أسئلة الواقع.. ولكن من المؤكد أيضاً انه اذا توجه شخص بإصبعه الي جبهة أحدهم لن تنفجر الدماء!
هل هذا أكيد حقاً؟! ألا يموت شخصاً في وجود افتراضي أو واقع يوصف بالمعزز الآن عبر إشارة إصبع فقط ولا أقول ضغطة زر.. إنما مجرد الإشارة تقتل الآن.. وربما قريبا في تطبيقات الميتافيرس القادمة يتحدثون عن حقيقية هذا الواقع بما قد يهدد حقيقية وجودنا الذي اعتدنا ان نثق بأنه الحقيقي لا غير! في ديسمبر الماضي غردت سيدة بريطانية عن تجربتها في واحدة من تطبيقات الميتافيرس أثر تعرضها لواقعة تحرش من أكثر من شخص فور دخولها هذا العالم ووصفتها بالكابوسية والسريالية.. دعني أسألك ماهي مادة الحقيقة بالنسبة لك.. تقول في الرواية أن أكثر الأشياء زيفاً هي مصنوعة من مادة الحقيقة.. فكيف ترى ماهية الحقيقة؟
يمكننا التفكير بنفس منطق البناء، انه من نفس مواد البناء الحقيقية التي من شأنها تشييد أبنية واقعية تماماً كما نعرفها في الواقع قد يصنع منها مجسمات أو نماذج هي زائفة لأبنية مستنسخة وليست أصيلة.. و بالقياس على الكتب، فالكتاب المزور هو مصنوع من نفس مادة الغلاف والورق التي يصنع منها الكتاب الأصلي.. الرواية تطرح هذا السؤال ما هو الأصلي و ما هو الزائف؟ و رجوعاً لسؤال المحاكاة، هل تصنع المحاكاة نسخة مقلدة؟ هذا طبيعي.. ولكن ماذا لو أن تجد النسخة المقلدة بدورها نسخة جديدة مقلدة.. وهكذا يبتعد المرجع أو ما ندعوه بالأصل إلى أن لا نعثر عليه!
سؤالي في الرواية عن المسافة بين ما ندعوه مدينة الواقع أو المدينة الحقيقية و مدينة الافتراض.. هل مدينة الافتراض زائفة؟ لا بدليل أنها تخلق شروط و قوانين بل وبشر أيضاً.. و إذا اتسعنا من هذا المنظور سنجد ان هذه الفكرة هي عالمنا الآن.. هل العالم الافتراضي عالم زائف؟ أكيد لا.. بدليل أني اذا عملت بلوك لشخص على منصة فيس بوك مثلاً لن أصافحه في الشارع إذا رأيته.. كما أن هناك شيء آخر وهو أننا ورثنا القاهرة المحفوظية، قاهرة الواقع، القاهرة الثقيلة.. فكانت رغبتي هنا في ماكيت القاهرة أن أنقل القاهرة التي تخص جيل مختلف، قاهرة لها هذه الخفة، قاهرة العالم الافتراضي.. قاهرة العالم المقلد.. قاهرة الجيل الذي يستخدم نسخ من كل الأشياء المقلدة!
..
ما أكثر شيء تمارسه أثناء يومك؟ المشي.. الكلام.. النوم.. الصمت.. التدخين؟
بهذا المعنى التدخين ربما والاستماع لأغاني التسعينات..!
ما طبيعة علاقتك بالنوم و الأحلام؟
أنام جيداً و أحلم.. ولكني لا استخدم أحلامي في الكتابة..
تبدأ الرواية بعبارة ملفتة؛ حيث قتل أوريجا أبيه و بغض النظر عن الأداة الآن، يحيلنا هذا المشهد لأوديب أشهر قاتل لأب.. و ما أن نتقدم في النص تظهر إشارة تلو أخرى.. هل كان أوريجا نسخة ما بعد حداثية لأوديب؟ ثم يتضح ان الذي قتله ليس أبيه.. من يكون الأب، ليس سوى أوريجا ذاته الذي بهذا الشكل العجائبي يكون قد حقق النبوءة سيئة الطالع وتزوج من أمه نود. . تكتمل الدائرة المفرغة وتعيد إنتاج ذاتها في ثلاثة نماذج تدور كل دائرة منهم حول الأخرى و حول نفسها.. في النص الكلاسيكي لسوفوكليس ينبئ أبولون (القدر) الذي هو هنا منسي عجرم الشخصيات بمصيرها.. و مهما يحاولون تجنب الأخطاء التي ستودي بهم لا يمكنهم القدر من هذا الفرار أو التغيير.. لدى كل من أوريجا و أوديب عاهة كدليل على حادث طفولي، إصبع أوريجا المتقزمة وقدم أوديب المتورمة.. بلياردو وفقدانه لعينيه ليس إلا تحولاً لفقأ عيني أوديب .. حتى أن نود قتلت نفسها مثلما فعلت جوكاست.. و المسز بأسئلتها المُلغِزة المهدِّدة معادلاً لسفنكس حارس طيبة.. ثم إن اللعنة التي أصابت المدينتين طيبة و القاهرة.. و الأهم أن القصتان تطرحان السؤال نفسه حول صراع حرية الإنسان في مقابل سلطان القدر..! لا أحاول إثبات أن الرواية مستلهمة من نص آخر وإنما أفكر أن الفكرة (تجربة الحرية) عندما أصبحت جوهر الرواية أعادت محاكاة عالم متخيل أيضاً قد جسدها من قبل.. غير أن أبطال الماكيت ليسوا ملوكاً ولا باحثين عن الفضيلة بل فنانين مهمشين وممعنين في ارتكاب الرذائل بما يمكن اعتباره تحديهم الوحيد في وجه القدر.. و كلما حاولوا الخلاص من قسوة الحياة بالفن دمرهم الفن بقسوته.. و لم تنتهي حرية الإنسان إلى شيء من الفوز!
ودعني اذكر لك هنا ما قاله طه حسين في مقدمة ترجمته لنص اندريه جيد (أوديب) عندما أشار الي نص جان كوكتو _ المأخوذ عن أوديب أيضاً _ الذي صدر في نفس العام مع نص جيد.. يقول : أما كوكتو فيسرف في التجديد و الابتكار اسرافاً شديداً لا يدعوه إلى تعمق الفكرة التي تدور حولها القصة وإنما يدعوه اليه الفن نفسه، الفن الخالص الذي يروع الجمهور و يبهرهم و يحرص على سحر عيونهم وعقولهم أكثر من حرصه على دعوتهم للتأمل و مواجهة المشكلات العليا.. بينما يعنى اندريه جيد بالأساطير يفكر فيها مهما كثرت فيها الأعاجيب و خوارق العادات ومخالفة قوانين الطبيعة بحيث تنتهي دائما إلى شيء من المنطق يردها إلى العقل وإلى ما يحمل العقل على التفكير فيما يفسر حياة الإنسان أو يتصل بمصيره او موقفه من القدر..
وانا إذ أوجه إليك هذا القول الآن.. هل فعلت ما فعله كوكتو.. حيث لا ينتهي الصراع إلى شيء بل يعيد إنتاج نفسه مجدداً .. ما هي غايتك هنا ؟
يقول بورخيس أن الكاتب يصنع أسلافه، بالتأكيد لم أفكر في أوديب أثناء الكتابة، و لم استمع لتأويل كهذا من قبل. لكنه يطلعني على جانب جديد في الرواية الآن.. لكن، نحن هنا مع تطور الفن و الحياة اختلفت نظرة الفن للإنسان لم يعد من أدوار الإنسان الفرد أن يكن بطلاً أو أن تحدث لحظة تنوير ما.. ثم أننا هنا نتحدث في سياق روائي و ليس ملحمي.. وفن الرواية نفسه نشأ كنتيجة أو إفراز لعصر الثورة الصناعية مع نشوء طبقة وسطى لم يكن لها وجود من قبل.. فأزاح هذا الفن (الرواية) فن الملحمة وأزاح مقولاتها أصلاً.. فإذا كانت الملحمة تنتصر للبطل الاستثنائي الذي ينتصر للفضيلة.. فالرواية تنتصر للفرد النسبي البسيط العادي و المنسي.. الملحمة تنطلق من يقينية المعرفة تجاه العالم وثنائية الضد خير وشر.. أما الرواية فابنة للمدينة الحديثة.. ابنه للصناعة و قوانينها.. وانا إذ اكتب رواية انطلق من اعتبارها امتداداً لهذا القانون في النظرة للفرد.. إن الإنسان خير وشر معاً.. ستجدي عند كافكا فرد يستيقظ ليكتشف انه صرصار.. أنظري للمسافة!
أما بالنسبة لطه حسين، فإن منطقه بالانحياز لهذه الرؤية مقابل الأخرى هو منطق فلسفي و ليس منطق فني. فهو ينتصر هنا للفلسفة المادية الوضعية التجريبية على حساب الفلسفة المثالية.. و المنطقين موجودين داخل الرواية بالمناسبة، هل العالم محاكاة للمثل للتصور عن الحقيقة أم أن المادة تخلق الإنسان؟ ولذلك في رأيي أن الفن ليس من بين ادواره الانتصار لشيء في مقابل آخر؛ لأني لا أدعي تقديم معرفة مطلقة.. وقيمة الفن انه لا يرى بأي شيء دواء كامل للإنسان.. كل زاوية من العالم يحتاجها الإنسان يحتاج الشك كما يحتاج للإيمان.. يحتاج الواقع والخيال معاً..
لقد ذكرت دائرية الزمن هنا باعتبارها ضرورة فنية ودالة على فكرة التكرار الأبدية.. كما لو أنه ليس دائرياً في حقيقته! أسأل كيف تفسر طبيعة الزمن وكيف تتعامل معه؟
دائرية الزمن هنا تمثل الحقيقة، لكن في نص آخر من الجائز أن أعمل على الزمن الخطى..
ولكن لماذا تثق بطبيعة خطية الزمن خارج النصوص؟ ثم أنك تعاملت مع الزمن رأسياَ وأفقياً معاَ في هذه الرواية ربما في مشاهد بلياردو؟
لأني طوال النص أتساءل عن أنماط الزمن الموجودة.. هل هو دائري فقط؟ أم خطي فقط؟ و ما هو الأنسب لكل شخصية.. بلياردو مثلاً تصوره عن الزمن رأسي لأنه خطاط والخط العربي كفن علاقاته مكانية.. أما أوريجا فينظر للزمن أنه دائري..
هل تتضح هذه العلاقة الزمكانية بمقولة الشيخ ابن عربي أن المكان زمان متجمد و الزمان مكان سائل؟
نعم، و ميزة الفن أن الزمن في الواقع قهري يتحرك للأمام.. بمعنى لا يوجد في الواقع فلاش باك ولا قفز للمستقبل.. بينما في الفن يمكن للأزمنة أن تتجاور بدلاً من أن تتعاقب.. و تصبح كل الأزمنة هي الحاضر..
ولكن لماذا لا يتجاورون في الواقع.. بالعكس، نحن الآن بينما نتحدث ليلاً و عبر وسيط افتراضي وهي لحظتنا الحاضرة هناك من هو في اليابان في يوم (زمن) لم يصل أصلاً لمن هو في أمريكا الآن أيضاً.. وفي اللحظة ذاتها زمن الأرض كلها مختلف لمن هو خارج الكوكب الآن.. هناك من هو نائم الآن يحلم بما هو خارج الأزمنة أصلاً و من يتأمل ماضيه وعائش في لحظة قديمة وآخر يفكر بلقاء سيجريه بعد غد ويتصور أحداثه.. ألن نجد الآن أحدهم تغرقه أحزانه بما لا يجعل لحظته تمر وآخرون تجري بهم السعادة عابرة الساعات في اللحظة نفسها؟ اذن في اللحظة الواحدة هناك عدد من الأزمنة يتجاوز الثلاثية الكلاسيكية(ماضي حاضر مستقبل) ويتجاور أيضاً وكل هذا في الواقع الذي نعرفه ونثق به .. في مجرتنا وخارجها كم من الثقوب السوداء التي يتوقف الزمان بداخلها تماماً.. ربما هذه هي الأبدية.. ولكن على الجانب الآخر من الثقب الأسود ينقلب الزمن على نفسه، يعود للوراء فقد يتسنى لأحدهم مستقبلاً أن يلتقي نفسه صغيراً.. يقابل ماضيه فعلاً ..! كل ما أعرفه عن الزمن أن معلوماتنا عنه غير كافية لنثق به.. وهذه المهارات العقلية التي أعطانا إياها اينشتاين في عشرينيات القرن الماضي علمتنا أن الكون في اتساعه يتطور سلوكه وتتغير طبيعة الزمن به والمدهش أن ميكانيكا الكم تقول : كما استطاعت الجزيئات أن تكون في عدة أماكن في نفس الوقت فربما سنكتشف في كوننا الكمي عدة أكوان ولكل منها زمنه الخاص.. ومن هذا المنظور الجديد للزمن تكون علاقتنا به مجرد وهم، وهم يسمح لنا أن نشعر بأماكننا في هذه الزاوية الصغيرة من الكون..
هذا التفسير الفيزيائي قادر على فك شفرة الرواية بالنسبة لي بحيث أوجد رصيف ثابت ليرصد نسبية التحولات الزمكانية لأحداث الحكاية.. و هو ( برج القاهرة) أو عين الطائر، ربما هو المركز الوحيد الذي يوحد جميع الدوائر.. التي ترسلها في الهواء كلاعب سيرك.. كان البرج مركزاً وحيداً في نص ينسف المركزية تماماً ويعيد دوائر الحكاية إلى قبضتك من جديد.. حتى فكرة تمدد الكون الروائي ومن ثم انفجاره ذاتياً هي ذاتها نظرية نشأة الكون والتي تتنبأ بنهايته بنفس الطريقة..!
منطقك مدهش بالنسبة لي، و رغم انتفاء علاقتي بالفيزياء إلا أن هذا المنطق مثالي للرواية.. نموذجي!
هل تنظر الآن إلى فصل (مانجا) باعتباره زائداً بما قد يفسد دقة الإيجاز و كفايته؟
إطلاقاً.. رغم تفكيري الكثير به أثناء الكتابة.. أبقيت عليه لأقول أن هناك ما بعد النهاية مثلما هناك ما هو قبل البداية.. مانجا توضح أن كل هذا حكاية.. و الرواية تظهر دائماً في صورة فن يتحول إلى فن.. رسام جرافيتي يتحول إلى فنانة تصنع فيلم تتحول إلى فنان يكون ماكيت وكل هؤلاء يكونون رواية في النهاية.. أعلم أن هناك من يرونه فصل زائد وأتفهم رأيهم تماماً.. ولكن هكذا حدثت و هذه هي الرواية!
..
ألم تخشى أن تصبح أحد المنسيين العجارمة الذين يتنبؤون بمصائر الناس بالنسبة لقاريء سيلتقي بنصك هذا فينبؤه بنهاية المدينة مستقبلاً؟
لا لم افكر بهذا.. وإن كان الأدب نبوءة عموماً.. بغض النظر عن مدى مباشرة النبوءة.. يعني كما لو انني أقول انتبهوا سيحدث كذا أو انتبهوا ربما يحدث كذا أو أنا وحدي أرى أنه قد يحدث كذا.. المسألة نسبية.. كان في ماضي الأدب العربي الشاعر الراوي و زرقاء اليمامة التي ترى ما لا تراه الجماعة.. وإن كان هناك مدرسة تنظر للكاتب على أنه نسبي و هامشي و لا يملك معرفة مطلقة.. ولكن هذه النظرة للفنان يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الفارق بين المجتمعات.. فهذه النظرة تطبق على مجتمعات الوعي الفردي المرتفع بحيث يكون وعي القارئ موازي لوعي الكاتب.. بينما الكاتب العربي لا يزال لديه دور تجاه الجماعة في التنبيه والتحذير و الرغبة في المقاومة.. لأننا في سياق بحاجة لأن تكون الكتابة مزيجاً من الهمس والصراخ شريطة ألا تتخلى عن جمالياتها و عن دورها الأساسي في خطاب جمالي..
هل مارست بهذا النص تفكيك الايديولوجيا بهدف هدمها و مخاطبة قارئ متوقع مضاد للأيديولوجيا؟
أنا ضد أي حديث عن موت الأيديولوجيا.. والكتابة ايديولوجيا؛ ايديولوجيا يعني أفكار.. ومن أدوار الكتابة مناقشة و مساءلة الأفكار حتى و لو بشكل مباشر داخل النص.. و لكن هناك ما يشبه التشنجات التافهة سادت في مصر منذ التسعينات، و هي التي تنادي بأن لا يتناول الأدب الأفكار! وماذا يتناول اذن؟ ليس هناك ما هو خارج الأفكار! أما إذا كانت الايديولوجيا بمعنى الدوجما أو الثابتة وأحادية الاتجاه او الآتية من منطلقات سياسية فالأدب بدوره يأخذها على أرض الحكاية ولذلك قد يكون هناك روائي شيوعي وآخر ليبرالي مثلاً ولا أحد يمكنه في هذه الحالة أن يحرم الكاتب من حرية اعتقاده.. أنا لا أكتب رواية من أجل التسلية.. إنما دور الروائي أن يفسح المجال الحر للأفكار جميعها داخل النص حتى لو من بينها أفكار ضد قناعاته يسمح لها أن تعبر عن نفسها.. أن يمسرحها.. يصنع مسرحاً تتصارع به أفكاره في حوارية.. في ديالوج.. في كرنفالية .. رواية بلا أفكار هي رواية بلا انسان.. و الرواية إنما هي حكاية ذات بنية و دلالة بالضرورة، أما حكاية تجرد الشخصية الإنسانية الي مجموعة من الوظائف؟ يصبح فقط جسد لحم و دم يمشي في شارع!!
التجربة تنسبك لجيل التسعينات ولكن بالعمر تنتسب الي الجيل اللاحق، فإلى أي جيل تنتمي؟
أقع بين جيلين.. نُشر لي ثلاثة كتب في التسعينات ولكني لست طبعاً من المجايلين لكتاب التسعينات سناً.. لا أعرف، ربما لو انتميت لهذه التصنيفات لكان هذا ضرراً لي.. أحيانا أكون بين كاتبين بينهما فارق عمري عشرون عام مثلاً والاثنين يعتبرونني مجايلاً لكل منهم!! لا أعرف فعلاً.. و لكن رأيي الحقيقي اني بعيد جداً عن جيل التسعينات.. تجربتي لا تتماشى مع التيار الأساسي لهذا الجيل الذي احتفى بالكتابة الواقعية جداً.. بالهامش و اليومي.. بالذات.. كان جيل يُمَحّي السؤال السياسي و المجتمعي و الطبقي.. يحتقر الخيال و الفانتازيا.. تجربة التسعينات إجمالاً في الكتابة لا تمثلني و لست ميالاً لها كقارئ أصلاً!
هل هناك ما يمكن تسميته " أدب الجوائز "؟
لا أعتقد ذلك، و عندما استمع لمن يقولون أن هناك من يكتب للجوائز لا أفهم ماهية هذه الكتابة.. ثم إلى أي جائزة.. كل جائزة لها قوانينها و ذوق اللجنة وعوامل كثيرة تتدخل في فوز أي عمل فني.. هل سيعرفون كل هذا قبل إنتاج فنونهم مثلاً ؟!
هل الترشح للجوائز يهدد نقاء الأدب؟ أو يعرض الكتاب للتدجين مثلاً؟ لأنه كما نعلم جميع الجوائز لابد أن يتقدم لها الكتاب أنفسهم او دور النشر، أنا لا اعرف جائزة واحدة تمنح هي الجوائز لمن تراه مستحقاً!
نعم، ليس ثمة واحدة تقوم بهذا الدور، وهو المفروض طبعاً.. لكن ان الجائزة تدجن؟ بالنسبة لي نصوصي توصف بالتجريبية.. حتى وصول ماكيت القاهرة للقائمة القصيرة للبوكر أدهش الكثيرين لأن الانطباع عن هذه الجائزة احتفالها بالأدب الكلاسيكي.. الجوائز ليس لها قانون، ممكن كاتب يفوز بعدة جوائز لخمس سنوات مثلاً ويظل بعدها عشر سنوات بدون جائزة.. و أستطيع القول بأن هناك كتاب محظوظين بالجوائز، أعتبر نفسي منهم ..
أتصبح بهذا المعنى الجوائز مرحلة من مراحل الكتابة لتكن آخر مراحلها ولنا أن نعتاد عليها؟
هي أصبحت مناخ، و بعض دور النشر الآن خلقت مواسم للنشر مواكبة لمواسم الجوائز.. و في رأيي هناك جوائز لكل الفنون فلماذا لا تكون للكتابة جوائز؟ لماذا لا يكون الكاتب مشهور و نجم مثل السينمائيين و المغنين ولاعبي كرة القدم؟ حتى أن الجدل المثار عن الجائزة مع أو ضد بإمكانه إحياء علاقة الصحافة بالكاتب، يجعل الكاتب مشهوراً و من حقه أن يكون مشهوراً.. أن يتمنى شخص أن يصبح مثله كما يتمنى أن يصبح مثل محمد صلاح مثلاً! انا لست ضد أن يكون هناك جوائز للأدب ولكني ضد ان تكون الجوائز معيار وحيد لجودة عمل أدبي!
هل يمثل وضع المرشح لنيل جائزة بين طرفي الفوز أو الخسارة تأثيراً على إبداعه الحر، على علاقته بذاته، أو بفنه ربما؟
دائماً أقول "لا خاسر في الكتابة".. بمعنى انه الخسارة لا تعني الخسارة ولا تسبب انزعاجاً من عدمه..
لا أتحدث عن شعور الرضا أو التحقق.. إنما فعل هذه العملية التنافسية وسلطتها على الفنان فيما بعد، على الممارسة الحرة للفن دون أية اعتبارات؟
في رأيي أنها لا تؤثر على إنتاجه الفني أو طبيعة ممارسته للفن.. لا أكتب وعيني على جائزة ما.. لذلك لا يخيفني في حال الفوز أن أكرر عملي مرة أخرى.. و لا أقلق من الخسارة أنها ستجعلني أغير من أسلوبي المرة القادمة لأحصل على كذا أو كذا..!
تجربة التسعينات اجمالاً في الكتابة لا تمثلني ولست ميالاً لها كقارئ أصلاً..!
هناك كتاب محظوظين بالجوائز اعتبر نفسي منهم!
من حق الكاتب أن يكون مشهوراً كلاعب الكرة.. وأن يكون له محبين ومشجعين..!
أنا لا أكتب حكاية للتسلية.. أطرح أفكاري مباشرة وبشكل مجرد.. حتى التقنية أعريها في النص!