صباحات ربيعية معدودة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صباحات ربيعية معدودة

نشر فى : الأربعاء 1 يونيو 2016 - 9:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 يونيو 2016 - 9:55 م
هناك صباحات تفرض جمالها علينا، تتسلل شمسها من وراء الشباك فتدخل إلى روحنا وتداعبها. حين نستيقظ بعد ليلة عسيرة تقلبنا فيها فى فراشنا، وقد وقفت أمامنا كل الأشباح تصرخ فى وجهنا، نفتح العين الأولى ونغلقها بسرعة علنا نقنع أنفسنا أننا ما زلنا نائمين، ثم نسمع طرطقة فى البيت أو صوت أحدهم فى المطبخ فندرك أن علينا القيام من السرير.

ببطء نبدأ يومنا دون أن نشذ عن الروتين: نضع الماء لتغلى فى المطبخ ريثما ندخل الحمام لنغسل وجوهنا، نخرج ونعد القهوة التى ننقلها معنا فى أرجاء البيت. ننظر بسرعة من الشباك فتظهر الشجرة المقابلة بكل زهوها. نغض بصرنا كأننا لمحنا جارة تتعرى أمام زجاج بيتها، فللشجرة جمال يفاجئنا كل صباح. ننظر ثانية لنتأكد من جمال الجارة بعد أن يتغلب الفضول على الحياء، فتنفجر الشجرة أمامنا بلون أوراقها الأحمر الذى يظهر شهرا واحدا فى السنة فقط. لونها الصاخب يلتف حول مزاجنا المتعكر فيلونه دون أن يطلب منا إذنا أصلا. نكمل برنامجنا الصباحى، ونخرج من البيت إلى الشارع فى اللحظة التى تخلع الشمس فيها عن نفسها فستان الغيمة البيضاء وتضحك لنا. هل نحييها أم نكمل يومنا المتعكر؟ لننظر إليها خلسة ريثما نقرر.

نمشى باتجاه العمل فنمر قرب الشجرة التى ندهتنا من وراء الشباك، هى تلعب لعبة الاستغماية مع الشمس حين ننظر إليها فتعمينا الشمس ثوانى ويغمرنا اللون الأحمر ثانية أخرى. هناك صباحات ربيعية معدودة، قد تكون عشرة أو عشرين يوما فى السنة كلها، تكون روحنا ما زالت عالقة فى الشتاء، لكن صباحا ربيعيا أحمر ومشمسا يسحبها إلى حضنه غصبا عنها.
***
هناك صباحات لا ندرى كيف تتحول فيها التفاصيل اليومية إلى قصة حب، قد يكون أننا نرى فى فنجان القهوة صباحا آخر جلسنا فيه مع صديق أصبح اليوم بعيدا، نصب فنجانا تلو الآخر بينما نتناقش معه حول معنى الحياة. نحن لا نذكر تفاصيل الحديث بقدر ما نرى أمامنا حركة يديه، وهو يصب القهوة المغلية فى فنجان أصفر، فتقع بعض قطرات القهوة على الصحن الصغير ويمسحها بمنديل يتركه بين الصحن والفنجان. ماذا قال لنا يومها؟ لا يهم، لكننا نتذكر دفء الشمس تماما كما هو اليوم، قد تكون جلسة القهوة تلك حدثت أيضا فى يوم ربيعى، لعبت فيه الشمس بدلال مع غيميتين فى السماء، فبرد الجو تارة وسخن تارة أخرى ونحن نبكى أمام أختنا لرحيل من نحب، وهى تقول لنا إنه لا فائدة من ذاك الشخص أصلا.
***
فى الربيع تحتال علينا السماء فنراها صافية من وراء الشباك، ننزل إلى الشارع فنرفع ياقة القميص، ونكتف يدينا أمام صدرنا حين تصبح علينا النسمة الباردة، نبتسم دون أن يكون ذلك لشخص بعينه، إنه الربيع ووعد بحياة جديدة، إنها قيامة الأرض والورود من السبات وعودة العصافير إلى الحى، حتى فى المدن الإسمنتية الحديثة والبشعة، هناك بين حائطين يظهر عرق أخضر، من أين خرج وكيف شق لنفسه طريقا عبر الحائط؟
لم أكن فى صغرى أحب الربيع بشكل خاص فهو لم يكن دراماتيكيا بما فيه الكفاية بالنسبة لى، لا فيه قسوة الشتاء ولا صخب الصيف. لم أعر وقتها اهتماما لأى من معالم الربيع التى تظهر فى الصور النمطية، لم أهتم بالزهور ولا برمزية الحياة المتجددة. لكنه ظل يلاحقنى، عاما بعد عام حتى لفت نظرى بتقلباته، فجذبنى لعدم قدرتى على التنبؤ بطقوسه. هل ستبتسم لى الشمس اليوم أم أننى على موعد مع المطر؟ فى المساء ما زلنا نتغطى بلحاف خفيف، وقبل النوم نشرب الشاى ليدفئنا.
أمشى فى الشارع فتلف الشمس ذراعيها من حولى، خطواتى أخف على الأرض، وفى رأسى أدندن أغنية دون أن أتذكر متى حفظتها. لا يهم، فنقرة الدربكة فى رأسى تجعلنى أريد أن أدور حول نفسى وكأننى طفلة صغيرة فى حفلة موسيقية. فى أيام قد تكون ربيعية كنت أجلس على الرمل قرب أمى. كانت تجلس هى على كرسى خشبى صغير مع صديقتها، تلبسان ثيابا ألوانها زاهية أو هكذا أستذكرها اليوم، وأنا فى عمرها مع طفلى الذى أضعه على الأرض، بينما أجلس أنا مع صديقتى قربه. ثم ها أنا جدة أرافق حفيدتى إلى مكان تلعب فيه فى الشمس. ها نحن نعيش الربيع بكل رمزيته، حياة متجددة وطفلة أصبحت هى أم طفلة تلعب فى الشمس، ما كل هذا الجمال وكيف لم أنتبه إليه من قبل؟
***
من الصعب مقاومة لعبة الشمس حين تختبئ ونرفع رأسنا لنبحث عنها فتظهر وتجبرنا أن نغمض عينينا، نحن ذلك الطفل الذى هرب من أمه فى الحديقة وأصبح فى أعلى الشجرة يتأرجح حتى وقع، نحن تلك الفتاة الخجولة، التى تجلس على طرف الكرسى فى باحة المدرسة بينما تلعب زميلاتها لعبة «يحبنى لا يحبنى» وهن يقتلعن أوراق الوردة. هكذا فى أيام معدودة فى السنة نؤمن بالجمال والنور والخفة، ننصاع للون الأخضر حتى لو كان حضوره ضعيفا، ثمة رغبة فى التجدد والتغيير تحدث خلال أيام قليلة، فننظر حولنا، ونتساءل: هل بإمكاننا أن تعيش حتى نبلغ المائة عام؟


تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات