أنا نقطة صغيرة لا ترى بالعين المجردة. أنا ذرة غبار ملونة تطير وتقف على سطح طاولة عليها فنجان قهوة ومزهرية. أنا نوتة وحيدة فى سيمفونية لن ينتبه أحد إن غابت، فصوت الطبول يغطى على كل شيء.
فى محاولتى أن أتقبل حجم تأثيرى على الصورة الكبرى، وحتى أتصالح مع عدم قدرتى حاليا على إحداث تغيير فى مجرى النهر الجارف، وجدت أن الطريقة الأسلم للحفاظ على توازنى وبصراحة لوقاية نفسى من الجنون، حيث إننى بدأت فعلا أتساءل فى أى مرحلة من الغضب قد يمس الجنون العقل، فقد قررت مؤخرا أن أعدد التفاصيل التى تفرحنى وأن أركز فيها، خصوصا اليومية منها والتى كثيرا ما نتوقف عن ملاحظتها:
المانجا فى مصر
كنت فى صغرى أستغرب ولع الناس من حولى فى دمشق بالمانجا المصرية، وطلب الأقرباء ممن يزورون القاهرة بأن يعودوا وفى حقائبهم حبات الفاكهة سكرية الطعم والرائحة.. حتى فهمت أن المانجا ليست فاكهة وثروة وطنية فحسب، إنما هى أيضا مصدر لسعادة لا يضاهيها سوى سعادتى بقطف حبة دراق (خوخ باللهجة المصرية) من على شجرة فى بستان قرب دمشق. فى حالتين، يزحف العصير من الحبة إلى إصابع يدى فيمتلئ كفى بالسكر البرتقالى. أنظر حولى قبل أن ألعقه، إذ لن أضحى حتى بقطرات من عصير المانجا أو الدراق، فالاثنان عملة نادرة تظهر فى فترة قصيرة من السنة.
عشاء صغير للأصدقاء فى بيتي
أحب المطبخ وأحب أن أطبخ لأصدقائى. أتمسك بلقائهم حول مائدة فرشت عليها غطاء دمشقيا مزركشا وزينتها بأطباق مختلفة أعدد انتماءها لمدن سوريا المختلفة. الفريكة من جبال حوران، اللحم بالكرز من حلب وإدلب، فتة الباذنجان من دمشق، الكبة من حمص وكبيبات السلق من الساحل السورى. ما أجملها سوريتى التى حافظت عليها على طاولة الطعام. لن أنظر إلى الصورة الكبرى فى الخارج وسوف أركز على سعادتى بجمع أصدقاء أحبهم حول المائدة السورية.
نصف الساعة الأخير قبل أن يهدأ المنزل فى المساء
صوت الماء فى الحمام حيث يستحم الأولاد، ضحكاتهم وهم يرشون الماء وصوتى وأنا أنهرهم رغم أننى أريد أن أضحك معهم. لبس النوم والفانيلات النظيفة، الأسرة التى يقفز عليها الأولاد الثلاثة وكأنهم يستعدون للشقاوة وليس لطى صفحة يومهم. الدقائق التى أجلس فيها مع ثلاثتهم لنقرأ قصة فى السرير فيعترض الكبيران على الاختيار الذى يناسب الصغيرة لكنهما يصغيان إليها رغم الاعتراض.
شراء بعض الحاجيات من الحى الذى أسكنه
ويقينى أننى أستطيع أن أمشى مغمضة العينين فى الحى لشدة معرفتى به... طبعا أتذكر سوء وضع الأرصفة فأقرر ألا أخوض التجربة وأبقى عينى مفتوحتين لكن ما علينا، أحب قدرتى على توقع مكان بائع الورد على ناصية الشارع، والمخبز فى منتصفه والقهوة فى آخره. صباح الفل ــ يقول لى بائع الورد ويعطينى زهورى المفضلة دون حتى أن أطلبها.
إعداد القهوة فى الصباح
وسماع صوت الماء وهو يغلى ثم انتظار أن تجتاح رائحة القهوة المطبخ فباقى المنزل، أصبّها فى فنجان أختار لونه حسب لون مزاجى وألاحظ تغير لون محتواه حين أضيف الحليب. الرشفة الأولى بمثابة نداء ليوم يبدأ، والرشفة الثانية تثبت المزاج، بينما الثالثة تعنى أن على أن أتحرك من المطبخ إلى مكانى المفضل فى غرفة الجلوس وأشرب ما بقى بتأنى.
شمس بعد الظهر
حين تجتاح الغرفة فتفاجئنى كل يوم وكأنها لا تكرر حركتها فى نفس الساعة على مدار العام. تدخل من الشباك المطل على الشجر فى الشارع وتتحرك فوق الأثاث فتتغير ألون الأقمشة وتتمايل الشجرة فى الخارج، أم أنه يتهيأ لى أن الشجرة تتحرك مع الشمس؟
رائحة الكعكة وهى تخبز فى الفرن
وانتظار الأطفال فى المطبخ وهم يستعجلونها رغم أنهم يعرفون أنه لا مجال لسحبها قبل أن ينتهى الوقت الذى حددته الوصفة. أصواتهم حول أدوات الطهى تختلط برائحة الفانيليا، ينحون لينظروا من خلال باب الفرن فيعلقون على انتفاخ الكعكة وأنا أشعر أن قلبى ينتفخ مثلها بسبب الحب.
عودة أبى من عمله
فى منزلنا فى دمشق فى يوم صيفى حار ليسأل إن كانت أمى قد عادت إلى البيت. السؤال مجازى فهى قطعا هنا لأن عودة الوالد كانت موعدا مقدسا للجميع، ووجبة الغذاء هى التى نجتمع حولها لذا فلا مفر. فجأة ننشغل جميعا حول الطاولية قبل نساهم فى طرطقة الأوانى.
صوت آلة الحياكة من غرفة جدتي
الجدتان حقيقة فالاثنتان تخيطان لى فساتين الأعياد والمناسبات وتثبتان عليهم ورودا ملونة.
سيجارة آخر الليل
حين أجلس وحدى على الشرفة أنظر إلى الشارع الساكن. لا أدخن فى النهار ولا أثناء ساعات العمل، إنما أتسلل إلى الشرفة بعد أن ينام الجميع وأسرق دقائق ثمينة لا أعترف بها فى اليوم التالى أمام زوجى.
فيلم قديم شاهدته ربما عشرات المرات وأصررت أن يشاهده أولادى كما حرصت أن ألقنهم كلمات أغنيته الشهيرة التى تقول إن أحسن دواء للخوف من العاصفة ومن أى هاجس هو أن نتذكر تفاصيل صغيرة هى المفضلة لدينا، فالتفاصيل كفيلة بأن تزيح الحزن. أنا نقطة صغيرة سعيدة بالتفاصيل.