كان يحب أن يجمع الأصدقاء والصديقات والمعارف، بل يعشق الجمع على موائد عامرة فى مساءات بيروت الصاخبة. وتبدو شقته على ذاك الشارع المتفرع من الحمرا أكثر حيوية وضجة من كل مقاهى مار مخايل والجميزة وبدارو مجتمعين. فى تلك الليلة من ذاك الشهر فى ذاك العام قبل انفجار مرفأ بيروت والكورونا وبالطبع قبل حرب الإبادة الصهيونية على فلسطين، جمع كثير من الصحفيين والكتاب والشعراء والأكاديميين. كان خليطا حتى بينهم مسرحيون وفنانون تشكيليون وفنانات.
• • •
تنوع الحضور فى الاهتمامات والمهن وكذلك فى الجنسيات والمواقف السياسية والثقافية والفكرية عامة. كان الحديث ينتقل بسلاسة ولكنه، أى صديقى المضيف، كان كما عادته، الأكثر حضورا وصخبا رغم مرضه وتعبه. فهو الصحفى المثقف الذى غطى الحروب قبل كثر، وتنقل حاملا كاميرته بين بلدات وقرى ومدن، فهو عاشق للحياة بألوانها وكان أكثر ما يغضبه هو اللون الواحد أو الاستكانة والمثول للعادات والتقاليد وحتى القدر.. كان ثائرا بحق دون ثورة وثوار، هو فقط الممتطى جواده وشاهرا قلمه فوق رءوس العباد كلهم رافضا أن يكون هناك من هو فوق صراحة الكلمة وقوة الحرف وطغيان الجمال.
• • •
بعد مضى ساعة أو أكثر والجميع منتشى بالحوار أو الشراب والمزات الأصيلة، التفت فجأة موجها كلامه لها وكأنه اكتشف وجودها للمرة الأولى «شو مالك ساكتة؟»، انتفضت هى المستمتعة فى الرقابة من بعيد وما بينهما من سرحان والتوغل فى أفكار كانت بالنسبة لها أكثر أهمية ولكنها كالمتلبسة، كان عليها الرد عارفة أن صديقها وأستاذها المضيف لن يقبل بالردود البلهاء الروتينية. اكتشفت بعد بضع ثوانٍ أنها ابتسمت بصمت وهى تنظر له بنفس تلك النظرات المليئة بالمحبة «ما عندى أى شى أقوله أنا عم أسمع للأساتذة». كانت تعرف تماما أن إجابتها لن تقنعه ولن يسكت ويتقبلها وهذا ما حدث، دخلت معه فى حوار فى صمت الحضور جميعا إلا من علت على وجهه علامات الفضول بحثا عن السبب فى طلب المضيف من صديقته المشاركة فى الحديث، وكأنه يبحث عما يثير سخونة فى أحاديث تحولت شيئا فشيئا إلى برود يشبه الطرق المسدودة. هو الذى يحب الأسئلة المفتوحة والحوارات التى تشبه القيادة على الطرق السريعة، بل هو يعشق الشبابيك المفتوحة فى ليلة شتوية لا يكسر هدوءها إلا صوت الريح العاتية.
• • •
فهمت هى لعبته بعد أن استمر فى «مناوشتها» بالأسئلة المباغتة والسريعة وعرفت مقصده، فكثيرا ما كان يدفعها إلى حوارات تنتهى بصراخه عليها «يا ألله شو أنت متخلفة وجامدة». فتضحك هى كثيرا حتى تدمع عيناها الغائرتان وتحول الموضوع إلى مادة أكثر إثارة فهى تعرف مفاتيحه وما الأحاديث التى تجعله مستيقظا وكأنه «هاتى هاتى مزيدا من هذا». استمر هو فى أسئلته واستفزازاته وهى فى إغلاق الطرق وسدها فى وجه أى محادثة قد تؤدى إلى نتائج تفسد الأجواء الفرحة بعض الشىء. إلا أنه لم يستسلم بل دفع بالكثير من الحضور لمشاركته فى حثها على التعبير عن رأيها فيما كان يدور من حديث.. فى الآخر، وكما يقول الشوام «بقت البحصة» أى قالت ما كانت تفكر فيه وهم فى أحاديثهم منهمكون مسرورون بإنجازاتهم «العظيمة» وخاصة فى صحف ومجلات ومحطات تلفزة خليجية بعينها! قالت لهم فى جملة مختصرة «بالنسبة للخليج كان دور الكثير من الإعلاميين العرب مخيبا للآمال إن لم يكن مهادنا ومجاملا وأحيانا ينظر بكثير من الدونية لأهل الخليج». هنا وفجأة حضر الصراخ مكان الصمت العاقل جدا وتحول الحوار إلى أحاديث جمعية غير مفهومة حتى صرخ هو «خلونا نسمع اسمعوا قبل ردات فعلكم العاطفية» وطلب منها أن تفسر أو أن تستمر فى توضيح فكرتها فما كان منها إلا أن فسرت لهم/لهن أن هناك فى الخليج وبعد الطفرة النفطية أصبح للإنسان، كل إنسان، سعر (الخليجى كما العربى كما الخواجة) قد يقاس بالعشرات من الدولارات أو المئات أو الملايين، كل حسب «سعره». ولذلك ونتيجة للحاجة فقد استجاب بعض الباحثين والأكاديميين وحتى الفنانون، ألم ترون كيف تحول ذاك المبدع من اللوحات الفنية غاية فى التعبير والجمال إلى رسم الأحصنة والسيوف متصورا أن هذا هو الذوق العام فى الخليج، رغم أنه قد يكون ذوق البعض ولكن ليس كل الخليج كذلك، كما أنه ليس كل الخليج نفطا كما قال ذاك الأكاديمى الخليجى قبل عقود. لم تكتفِ بذلك بل عرضت لأسماء ملء شاشات المحطات التلفزيونية «مطبلين» لشخصيات أو..
• • •
ضجوا أو لم يسكتوا إلا عندما جاءت الدعوة للتوجه إلى مائدة طعام العشاء وكانت عامرة بما لذ وطاب، فأغلق الحضور أفواههم إلا لفتحها للأكل والتلذذ به.. فانتهى الحوار هنا معهم ولكنه لم ينتهِ مع المضيف، وكانت له أجزاء كما حال المسلسلات التركية أو المكسيكية.. وللحوار ملحقات كثيرة!
كاتبة بحرينية