واقع اليوم.. وحقائق الأمس - سمير العيطة - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

واقع اليوم.. وحقائق الأمس

نشر فى : الأحد 1 أكتوبر 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : الأحد 1 أكتوبر 2023 - 8:50 م
بعد حرب سريعة، يهجر الأرمن اليوم «قره باخ» (الجبل المسمى أيضا ناجورنو كاراباخ أو أرتساخ) وسيحل مكانهم الآذريون، كنهاية لصراع عرقى دام طويلا فى منطقة متعددة الإثنيات كان الكرد يشكلون سابقا جزءا أساسيا من سكانها. هكذا كانت الحروب دوما فرصة لتغيرات جوهرية فى تركيبة السكان، حيث تعمل القوى المنتصرة فيها على «إدارتها» بهدف إقامة «عالم جديد». هكذا أدت الحرب العثمانية ــ الروسية ثم العالمية الأولى إلى طرد السكان الأرمن والأشوريين من مناطق أضحت اليوم مواطنا للقوميتين الكردية والتركية، وتم فى السياق نفسه طرد الشركس من القوقاز إلى بلاد الشام وتم الاستبدال الكبير بين المسيحيين والمسلمين فى الأناضول واليونان والبلقان. لقد زالت الإمبراطورية العثمانية ذات الأعراق والأديان المتعددة وحلت مكانها دول «قومية». وهكذا أيضا شهدت نهاية الحرب العالمية الثانية ثم الحقبة الستالينية فى الاتحاد السوفيتى تغيرات كبيرة فى حدود الدول الأوروبية وهجرات نهائية للسكان أنهت وجود الكثير من «الأقليات».
• • •
عرف المشرق العربى أيضا تغيرات كبيرة فى سكانه خلال القرن العشرين، من هجرات «السفر بر» نحو الأمريكيتين، وهجرات المسيحيين إلى لبنان من جواره، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، واغتراب العمل إلى الخليج، وصولا إلى النزوح واللجوء الكبير للسوريين خلال حربهم الأهلية الأخيرة.
وخلال القرن العشرين، انبثقت فكرة مشروع «العروبة»، وعلى خلاف القومية التركية، بالتحديد كرفض لشرذمة سكان المنطقة فى دول «قومية» صرفة أو فى دول وحيدة المعتقد الدينى أو ذات المذهب الواحد، وكذلك انبثقت لمواجهة خطر مشروع صهيونى استيطانى لم يظهر فى 1948 بل فى الحقيقة منذ نهايات القرن التاسع عشر.
لكن مشروع «العروبة» عرف هزيمته سنة 1967، مع بداية التحول التدريجى ليس فقط نحو دول وطنية تبقى هوياتها الداخلية متعددة، بل مؤخرا نحو تفكيك الدول الوطنية ذاتها على أسس إثنية أو مذهبية. وأضحت الدولة الصهيونية هى «الواقع» و«النموذج» فى المنطقة فيما يخص طريقة «إدارة» الهجرات الوافدة و«الأقليات» المتواجدة بهدف تهجيرها البطىء. وتغيير الديموغرافيا يرافقه تحريف للتاريخ. ومع فقدان محور لبنان ــ سوريا ــ العراق القدرة على إدارة تنوعه الذى ما زال كبيرا، عروبيا ووطنيا. بل أضحى هذا التنوع بمثابة «الشذوذ» أمام «الواقع» و«النموذج» ودخل فى «هشاشة» مستدامة تتحمل مسئوليتها «النخب» المحلية والقوى النافذة الإقليمية والدولية.
كثرٌ نسوا اليوم لماذا أنشئت أصلا الجامعة العربية سنة 1944، فى وقت لم تكن فيه الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها ولم تكن الاحتلالات العسكرية الخارجية قد زالت؟ إذ كان وراء ذلك النشوء تخوّف من إعادة ترتيب المنطقة تبعا لإرادة القوى العظمى المنتصرة، ومن المشروع الصهيونى الذى كان يجرى العمل حثيثا على تأسيسه. موضوعان أساسيان كانا فى صلب نقاش تأسيس الجامعة: الدفاع المشترك... والاقتصاد المشترك. وكلاهما... ذهبا مع الرياح سريعا، لتنخرط بعض الدول العربية المستقلة حينها فى مؤتمر سان فرنسيسكو وتأسيس الأمم المتحدة.
• • •
بالطبع أضحت «إسرائيل» واقعا يفرض نفسه اليوم. وهذا الواقع هو دوما مركز اهتمام الإدارات الأمريكيّة والمشرّعين الأساسى، وكذلك هو أحد شروط التعاون بين الاتحاد الأوروبى – الذى أنتج اقتصادا ودفاعا مشتركين – وبين الدول العربية. ومهما كانت الانتقادات الأمريكية والأوروبية الخافتة للانتهاكات الإسرائيلية لم تؤدّ يوما إلى الإقرار الصريح بـ«التمييز العنصرى»، الذى هو أيضا واقع، ولا إلى إدانة الاحتلال.
أمام هذا الواقع، تم الدفع بقوة نحو «التطبيع» وليس «السلام». والفرق شاسع بين هذا وذاك. فالسلام يعنى مرجعية قرارات الأمم المتحدة، ويعنى مبدأ «الأرض مقابل السلام» الذى تبنته القمة العربية فى بيروت عام 2002 بمبادرة أتت أصلا من المملكة العربية السعودية... أى عودة إسرائيل إلى حدود عام 1967. وفى حين أن اتفاقيات مصر والأردن مع إسرائيل لم تكن «تطبيعا» بل «اتفاقيات سلام»، استرجعت مصر مقابلها أرضها المحتلة فى سيناء وأبعَد الأردن محاولات تحويلها إلى وطن بديل للشعب الفلسطينى. أما «التطبيع» فهو فى شكله الرسمى علاقات دبلوماسية وإمكانية تنقل الأفراد والبضائع بين الدول، وفى شكله غير الرسمى هو تعاون خاصّة أمنى ضد مخاطر «مشتركة».
ويقوم «التطبيع» مبدئيّا على احترام ضمنى لسيادة ولسياسات الدولة التى يتم التطبيع معها وعلى عدم التدخل فى شئونها «الداخلية». أى ما يعنى القبول بالمستوطنات وبضم القدس الشرقية والجولان السورى وبغزة «السجن الكبير» وبسياسات «التمييز العنصرى»... ودون مقابل. وبما أن هذه القضايا تبقى جميعها شديدة الحساسية لدى شعوب البلدان العربية، يتم استخدام الرموز الآنية كى يتم تقبل «الواقع» تدريجيا، كالدفاع عن حلّ الدولتين الذى لم يعُد ممكنا عمليا أو المناداة بأولوية القضايا الوطنية على جميع القضايا «العربية». مثل نغمة «مصر أولا» و«الأردن أولا»... كما تقام مشاريع طموحة تغيّر الواقع الاقتصادى للمنطقة، من الهند وحتى... حيفا.
لم تكن القضية الفلسطينية يوما قضية دينية كى يكون نبى عنوانا لحل قضيتها... وللتطبيع. إنها فى الأساس قضية تهجير شعب من أرضه واستبداله بآخر. وعندما يصمد جزء من هذا الشعب على أرضه بكلفة بشرية وإنسانية كبيرة يجبَر على العيش فى ظل «تمييز عنصرى».
لا تأبه «لعبة الأمم» القوية بالتهجير القسرى للشعوب، بل تراها أحيانا حلولا لخلق وقائع تفرِض نفسها بنفسها وإن تطلب ذلك زمنا كى يتم نسيان التاريخ. بل تستخدم هذه الهجرات التى عملت عليها كأداة فى صراعات نفوذها الواحدة ضد الأخرى، وكى يتم الأخذ إلى صراعات إثنيّة ودينية أو مذهبية جديدة أو إلى صراعات بين المواطنين والمهجّرين كما شهدت ساحتا الأردن ولبنان.
• • •
يبقى أن العصر الحالى هو عصر تهجير كبير للسكان على المستوى العالمى من جراء الصراعات المفتوحة، حسب ما تذكره الأمم المتحدة. والقضية الإنسانية والسياسية الكبرى هى كيفية تعامل الدول والشعوب مع قضايا التهجير والهجرات والمهاجرين والمهاجرات. ليس أساسا لإغاثتهم و«تبرئة الضمير» ووضعهم فى خيم بانتظار أن ينسى الزمن تهجيرهم وأن يندمجوا، بل أن تعود الإنسانية إلى إنسانيتها عبر نبذ التمييز العرقى والدينى والمذهبى وعبر اعتبار المهجرين والمهاجرين بشرا مثل كل الآخرين. وأن القبول بتهجير الآخرين القسرى يفتح مجالا للقبول بتهجير من قَبِلَ به... يوما ما.
إن العالم يحتاج إلى خطوات عميقة وكثيرة كتلك التى قام بها بشجاعة بابا الفاتيكان فى مرسيليا لتذكير الأوروبيين بأنهم جميعا أحفاد هجرات تاريخية وأن البحر المتوسط وغيره من البحور.. ليسوا مقابر.
سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات