الأشجار.. طبيبات الروح والجسد في المدن المصرية - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 5:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأشجار.. طبيبات الروح والجسد في المدن المصرية

نشر فى : الأحد 1 أكتوبر 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : الأحد 1 أكتوبر 2023 - 8:50 م
كان وقع أخبار تطوير حديقة الحيوان والأورمان فى بداية العام صادما على كثير من الناس وكنت منهم ولكنى فكرت وتساءلت عما يمكننى عمله كواحد من المهتمين والمحبين لهما وللمدينة خلاف كتابة مقال خاص عنهما، ولماذا يجب علينا أن نهتم بمصير الأشجار فيهما بصفة خاصة؟ ما خطر على بالى وقتها هو كيف يمكن للناس عامة أن يعرفوا قيمة وأهمية الأشجار. كنت قبل ذلك قد رأيت وأعجبت بخريطة للأشجار لمدينة نيويورك، فقلت فى نفسى هل يمكن لنا أن نبدأ بعمل خريطة لهذه الأشجار فى جامعة القاهرة وجيرانها الأورمان والحيوان؟ وأن تحوى تلك الخريطة أكثر ما يمكن جمعه من معلومات عن كل شجرة فتتحول الأشجار من كائن أخضر إلى كائنات متمايزة كل منها يعرف باسمه العلمى بالإضافة إلى اسمه الشائع، وكل منها له ارتفاع محدد كما لكل منا طول معروف وكل منها له غطاء نباتى معروف وله قطر معروف، وأيضا لكل منها مقياس لساقها كما لكل منا مقياس لوسطه. كما نعرف شكل الورقة وربما الثمار والزهرة لكل منها. افتراضى أنه عندما تتحول معرفتنا عن الأشجار من مجرد معلومات بسيطة وعامة إلى معرفة مفصلة يمكن أن تتحول علاقتنا بالأشجار وبعالم النباتات إلى علاقة وثيقة بصورة أكبر.
• • •
لكن طموحنا كان أكبر فاقترحت تنظيم ورشة فى إجازة منتصف العام فى جامعة القاهرة ودعونا للاشتراك فيها متطوعين من أى مكان فى مصر. وأسميناها خرائط للأشجار فى المدن المصرية، كما كتبت فى تعريف الورشة فإن الهدف من هذه الورشة هو إعادة بناء علاقتنا ــ كشعب مصر ــ بعالم الطبيعة من خلال واحدة من أهم مكونات هذا العالم وهى الأشجار. وكما شرحت فى أول محاضرة فى تلك الورشة ونحن جالسون فى حديقة الأورمان فإن طبيعة مصر هى جزء من الصحراء الكبرى وأن اختراق النيل لهذه الصحراء ووصوله للبحر المتوسط هو ما خلق الحياة والحضارة التى نعرفها فى مصر، وأن هذه الطبيعة الأصلية لا تتواجد فيها إلا القليل من الأشجار وهو ما يدعونا للتفكير فى تلك الكمية من الأشجار الموجودة فى حديقتى الحيوان والأورمان فى مصر والتى نعرف تاريخيا ــ وكما شرحت زميلتى الأستاذة الدكتورة ريم حمدى لاحقا ــ كيف أتت وتمت زراعتها فى مصر خاصة فى عهد محمد على وأبنائه. ولكن الطبيعة الأصلية التى بها القليل من الشجر لا تجعل لتلك الأشجار القليلة أهمية استثنائية ولكنها أيضا تدعونا للتفكير عن أشكال الطبيعة الأخرى سواء من النباتات أو المسطحات المائية.
هناك جانب علمى للورشة يتعلق بكيفية توثيق الأشجار بدقة وفى هذا ساعدتنا الخبيرة الإنجليزية من أصل إيطالى والتى ترأس شركة تستخدم الذكاء الصناعى فى توثيق الأشجار، وفى هذا فهى تتعاون مع محرك البحث الكبير جوجل. حاضرتنا كارلوتا كونتى عن عمل خرائط وتنمية ما يسمى بالغابات الحضرية التى تهدف لتحقيق العدالة وذلك عن طريق الجمع بين الذكاء الجماعى للناس والذكاء الاصطناعى. وشرحت الكثير من الجوانب منها التأكيد على كون تنمية الغابات الحضرية هى أحد الحلول المرتكزة على الطبيعة. والتى نحتاج للاستثمار فيها لمستقبلنا فى المدن وذلك لتعظيم وجود الطبيعة فى المدينة لتساعدنا فى مواجهة التغير المناخى. وهى تقوم بذلك من خلال شركتها فى إطار يجمع بين تعاون المواطنين والأدوات التقنية الحديثة التى تمكن من تأسيس تلك الحلول المبنية على الطبيعة وخاصة الغابات الحضرية. وكان نقاشا جميلا إذ ليس بالضرورة أن ما تقترحه كونتى يكون ملائما كما هو لحالة المدينة المصرية، ولكن الأفكار الرئيسية وخاصة الجمع بين التقنيات الحديثة والعمل مع المواطنين هى فكرة جوهرية نستطيع أن نبنى عليها لتحقيق تغيير جوهرى فى علاقتنا مع الطبيعة فى المدن المصرية.
• • •
هناك جانب حضرى للورشة يتعلق بعلاقة سكان المدينة بالطبيعة من خلال الأشجار أى أن الأشجار ليست فى ذاتها الهدف ولكن الهدف أكبر وفى هذا ساعدنا الخبير البريطانى مارك كريدج، والذى بدأ محاضرته بالاستعانة بجملة مقتطفة من العالم الاجتماعى جورجى باتيسون والتى تؤكد على أن المشاكل الرئيسية فى عالمنا نابعة من الاختلاف فيما يفكر فيه الناس وبين طريقة عمل الطبيعة. يساهم كريدج فى تنفيذ خطة ترمى إلى تحويل مدينة لندن إلى منتزه عام وذلك من خلال مشاركة السكان وخاصة من خلال ابتكار العديد من الأنشطة التى تجذب شرائح عمرية مختلفة للمشاركة فى زراعة الأشجار أو العناية بها أو عمل جولات منتظمة مشيا أو بالدراجات لاستكشاف الطبيعة، وفى ذلك فهى تعتمد على العديد من المتطوعين المحليين القادرين على التواصل مع أبناء منطقتهم والتعامل معهم بالصورة التى تدعم وتشجع وتلهم مما يساعد فى جذب آخرين لتلك الأنشطة. مساهمة كريدج فى لندن هى فى جزء منها جزء من مبادرة دولية لتحويل المدن إلى متنزهات طبيعية وتضم حاليا العديد من المدن إليها من مختلف القارات. وفى نهاية محاضرته قدم كريدج اقتراحا بضم القاهرة لتلك المبادرة الدولية وبالطبع نتمنى أن يتحقق ذلك ولكن ما زال ينتظرنا الكثير من العمل.
• • •
الهدف المباشر من الورشة هو عمل خريطة تفاعلية للمنطقة التى اخترناها للورشة بحيث تكون تجربة قابلة للتكرار على مستوى المدن المصرية الأخرى، ولكن الهدف الأكبر هو أن تكون هذه الخرائط هى بداية للتعرف بصورة موثقة على علاقتنا كمواطنين وسكان محليين بالطبيعة من حولنا، والتساؤل حول حالة هذه الطبيعة ومكوناتها وما هو دور هذه العناصر الطبيعية فى دعم دورة الحياة ليس لنا فقط ولكن لباقى الكائنات. والمعرفة والتساؤل المنبثق منها هو هام فى ذاته ولكنه أيضا هام للتحقق من مدى تأثير أنشطتنا كبشر سواء كانت تنقلا أو زراعة أو سكنا أو صناعة أو ما خلافه على العالم الطبيعى من حولنا. والأهم هو حث المواطنين والسكان المحليين من مختلف الأعمار على إدراك أن عليهم مسئولية تجاه هذا العالم الطبيعى كما أنهم قادرون على المساهمة من خلال أعمال بسيطة على رعاية مصدر الهواء النقى والمياه والتربة. خطتنا يمكن أن تتطور إلى بداية لإعادة التفكير فى مدننا ليس فى صورة شوارع ومبانٍ ضخمة، ولكن أساسا كمكان للعيش الكريم والتواجد مع العناصر الطبيعية من أشجار وشجيرات ومياه كجزء أصيل من تلك الطبيعة لأننا خلقنا فى البداية فى تلك الصورة، وحتى نستمر فى الحياة علينا العودة لهذا التعايش التكافلى بيننا وبين الطبيعة، ولكى تتحول تلك الخطة إلى واقع تحتاج خطتنا لتمويل بسيط من مؤسسة مصرية يمكنها من تمكيننا من تصميم وإيجاد منصة رقمية ومتخصصين فى الخرائط الرقمية يمكنهم قيادة هذا العمل.
• • •
الأشجار أو كما أطلق عليها البعض طبيبة الأرواح هى أيضا بالدليل العلمى طبيبة الجسد ولكن الأهم أنها دليلنا ومرشدنا للمنظومة الطبيعية التى هى جزء منها والتى علينا أن نعرف عنها أكثر وأن نعمل على استعادتها حتى نستطيع أن ندعم حياتنا روحا وجسدا.
التعليقات