لقد حرص الرئيس الإيرانى بزشكيان على أن يؤكد خلال حملته الانتخابية، وعقب فوزه فى الانتخابات الرئاسية الإيرانية، أن من الأولويات المهمة فى السياسة الإيرانية تعزيز علاقات التعاون مع دول الجوار فى كل المجالات الاقتصادية والتجارية، والسياسية والأمنية، والاستثمار، والثقافية، لما يحققه ذلك من مصالح مشتركة لكل الأطراف المجاورة. ومصداقا لذلك، جعل أول زيارة خارجية له إلى العراق، أهم جيران إيران وأكثرهم مشاركة فى كل المجالات، ومنفذا بالغ الأهمية لإيران من أجل التغلب على بعض الآثار السلبية للعقوبات المفروضة عليها.
واصطحب بزشكيان وفدا إيرانيا رفيع المستوى سياسيا واقتصاديا وتجاريا وأمنيا خلال زيارته للعراق التى استغرقت ثلاثة أيام ما بين 11 ــ 13 سبتمبر 2024. والتقى فى بغداد مع رئيس الوزراء محمد شياع السودانى، ورئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، كل على حدة. كما التقى بقيادات الإطار التنسيقى للأحزاب الشيعية الرئيسية المؤيدة للحكومة. وتناول فى هذه اللقاءات الأوضاع كافة بين إيران والعراق، وتطورات الأزمات والصراعات فى المنطقة، خاصة الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة وحزب الله فى جنوب لبنان، والتوافق فى الرأى حول ضرورة وقف إطلاق النار ورفع الحصار وإدخال المساعدات الكافية إلى الفلسطينيين فى قطاع غزة، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان. وقال بزشكيان إن جرائم إسرائيل فى قطاع غزة تظهر أكاذيب الدول الغربية والمنظمات الدولية حول حقوق الإنسان. وأكد السودانى على ضرورة الوقف الدائم لإطلاق النار وللإبادة الجماعية التى تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين العزل فى قطاع غزة. وأكد رفض حكومته أن تستغل الأراضى العراقية للقيام بأعمال تهدد أمن إيران، وهو يشير بذلك إلى شكوى إيران من وجود جماعات معارضة كردية إيرانية مسلحة فى مواقع داخل إقليم كردستان العراق. وسبق أن أعلنت بغداد إغلاق العشرات من المقار التابعة لهذه الجماعات فى مناطق الحدود العراقية ــ الإيرانية. وقد شدد بزشكيان على أن إيران «تريد عراقا قويا وآمنا ومستقلا». وأكد السودانى أن الأجهزة الأمنية المشتركة تواصل العمل لضبط الحدود بين البلدين، ومنع التهريب الذى يضرب الأمن الداخلى. وأشار بزشكيان إلى أهمية توقيع اتفاقيات أمنية جديدة مع العراق؛ حيث إن العدو الذى يهدد البلدين واحد.
وقد تم توقيع 14 مذكرة تفاهم فى حضور بزشكيان والسودانى، تضمنت التعاون فى مجالات الاقتصاد والتجارة، والتدريب، والشباب والرياضة، والزراعة، والتبادل الثقافى والفنى والآثار، والتربية، والإعلام والاتصالات، والاستثمار، والبريد والحماية الاجتماعية، وتطوير القوى العاملة الماهرة، والتعاون بين الغرف التجارية والسياحية والدينية، والتعاون الأمنى. ووصف بزشكيان توقيع هذه المذكرات بأنه يمثل انطلاقة جديدة للتعاون بين البلدين.
• • •
وتعد إيران أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين للعراق، مع نفوذ سياسى كبير داخل العراق من خلال الأحزاب السياسية الشيعية، وعدة فصائل من قوى الحشد الشعبى العراقى والتى تنضوى رسميا تحت لواء القوات المسلحة العراقية. وقد بلغت قيمة صادرات إيران إلى العراق خلال عام 2023 نحو 10 مليارات دولار أمريكى، وهى تمثل نحو 20% من إجمالى الصادرات الإيرانية. ويستورد العراق نحو 30% من المحاصيل الزراعية والغذائية الإيرانية، وأكثر من 60% من صادرات السيراميك الإيرانى، ومنتجات أخرى مثل الحقائب والأحذية، والأدوات المنزلية، والمستلزمات الصناعية. وتصدر إيران ملايين الأمتار المكعبة من الغاز الطبيعى يوميا إلى العراق لتشغيل محطات الكهرباء، وتوجد متأخرات متراكمة فى سداد العراق قيمة الغاز الإيرانى التى تغطى نحو 30% من توليد الكهرباء، وتقدر المتأخرات بنحو 10 مليارات دولار أمريكى، وتوجد صعوبات كبيرة أمام سدادها نقدا نظرا للعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران وبصفة خاصة على صادراتها من البترول والغاز. وقد سعت إيران قبل زيارة بزشكيان إلى التوصل إلى آلية مشتركة للتغلب على المقاطعة، ولم يمكن تجاوز العراق لشروط المقاطعة الأمريكية، ولذا أعلن أن هذا الموضوع لم يتم تناوله خلال الزيارة.
ويعد موضوع الموارد المائية من الموضوعات بالغة الأهمية للعراق. لذا دعا الرئيس العراقى خلال لقائه مع بزشكيان إلى إطلاق مياه الأنهار الحدودية بين إيران والعراق، والتوصل إلى تفاهمات مرضية للجميع حول تقاسم المياه. وأشار بزشكيان إلى أنه تم الاتفاق على تشكيل فريق من الخبراء من البلدين يتولى وضع الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد تؤسس تعاونا وثيقا لتحقيق توافق بين البلدين وجعل المياه مجالاً للتعاون وليس للاختلاف. ويلاحظ أن موضوع المياه جرى بحثه فى كل زيارات الرؤساء الإيرانيين السابقين مع إحالته للخبراء فى كل مرة. ويبدو أن إيران تربط بين حاجة العراق للمياه، وحاجة إيران للأمن.
• • •
وتوجه بزشكيان فى اليوم الثانى من الزيارة إلى إقليم كردستان العراق ليكون أول رئيس إيرانى يزور الإقليم، والتقى مع نيجيرفان بارزانى رئيس الإقليم الذى وصف الزيارة بأنها تاريخية، وجدد تأكيده بعدم السماح باستخدام أرض الإقليم لتهديد أمن إيران، ونوه إلى العلاقات التاريخية مع إيران، وإلى تعزيز العلاقات الثنائية خاصة فى المجال الأمنى، وإلى أن إيران كانت تقف مع الإقليم فى الأوقات الصعبة. وتحدث بزشكيان مع كل المسئولين والإعلام فى الإقليم بلغة كردية سليمة، فهو ابن لأم كردية إيرانية وأب أذرى، وركز على العلاقات التجارية وأمن الحدود مع إيران، خاصة وأن إيران تشكو من وجود جماعات كردية إيرانية مسلحة على أرض كردستان العراق، وسبق أن وجهت إليها خلال عام 2023 عدة ضربات عسكرية وترت العلاقات مع الإقليم. وتم بعدها توقيع اتفاق أمنى بين طهران وبغداد يتم بمقتضاه نزع سلاح الجماعات المعادية لإيران وإبعادها عن الحدود بين البلدين. وسبق أن اتهمت إيران هذه الجماعات بتأجيج المظاهرات الإيرانية فى عام 2022 إثر مقتل مهسا أمينى، وأنها تحصل على الأسلحة من جهات عراقية.
وقد وجه بزشكيان الدعوة إلى مسعود برزانى، رئيس الحزب الديمقراطى الكردستانى، لزيارة إيران. ثم انتقل بزشكيان من أربيل إلى السليمانية، وزار قبر الرئيس العراقى الراحل جلال طالبانى، يرافقه ابنيه بافل وقباد طالبانى. ويتمتع حزب الاتحاد الوطنى الكردستانى، الذى يرأسه بافل طالبانى، بعلاقات جيدة مع إيران، وهو المنافس الرئيسى للحزب الديمقراطى الكردستانى. وقد بحث بزشكيان مع زعماء الإقليم تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية مع إيران. وتبلغ قيمة التبادل التجارى بين الإقليم وإيران نحو 6 مليارات دولار أمريكى سنويا.
• • •
واختتم بزشكيان زيارته للعراق بزيارة مدينة البصرة، ليكون أول رئيس إيرانى يزورها منذ عقود. واتخذت السلطات العراقية إجراءات أمنية غير عادية اقتضت تسليم الصحفيين والمراسلين كاميراتهم ومعداتهم إلى الأجهزة الأمنية قبل الزيارة بيوم لفحصها خشية احتمال احتوائها على مواد مشبوهة. والتقى مع محافظ البصرة وكبار المسئولين فى المحافظة وبحث معهم تعزيز العلاقات والتعاون الاقتصادى والتجارى، والسياحة وتطويرها بين إيران والبصرة.
كما ألقى بزشكيان كلمة فى المركز الثقافى النفطى فى البصرة وهو يرتدى عباءة عربية أهداها له شيوخ القبائل والعشائر فى البصرة، أشار فيها إلى أنه ناقش مع المسئولين العراقيين أهمية توحيد الصفوف من أجل تحقيق التقدم فى جميع المجالات، وأنه لو كان المسلمون فى حالة تآزر وتآخ وتضامن فيما بينهم لما كانت إسرائيل لتجرؤ على قتل الأبرياء فى غزة، وأن الاتحاد بين دول المنطقة يساهم فى التقدم العلمى والاقتصادى، وتعهد بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه مع العراق.
وقام الرئيس الإيرانى بزيارة العتبات المقدسة للشيعة فى كل من كربلاء والنجف. كما التقى برجال الأعمال وكبار الجالية الإيرانية فى كل من بغداد وإقليم كردستان والبصرة. وزار بعض المشروعات التى تنفذها شركات إيرانية فى البصرة، وأشاد بمشروع السكة الحديد الجارى إقامته بين البصرة ومدينة الشلامجة الإيرانية على الحدود بين البلدين. وزار فى بغداد المكان الذى أغتيل فيه الجنرال قاسم سليمانى، قائد الحرس الثورى الإيرانى السابق.
لقد اتسمت زيارة بزشكيان بكثافة اللقاءات والمباحثات على جميع المستويات العراقية وتناولت كل مجالات العلاقات الثنائية والقضايا والأزمات الإقليمية، كما اتسمت بشمول مراكز التأثير الرئيسية فى بغداد، وفى أربيل والسليمانية فى أقصى الشمال، وفى البصرة وكربلاء والنجف فى أقصى الجنوب، مع التركيز على العلاقات الاقتصادية والتجارية والقضايا الأمنية من أجل مزيد من تعزيز العلاقات مع العراق، أهم بوابات إيران لكسر العزلة التجارية والسياسية، والتغلب على العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وتحقيق الأمن الإيرانى العراقى بالتوازى مع التعاون فى كل المجالات.
مساعد وزير الخارجية الأسبق