مهرجان تحطيم الأسعار - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مهرجان تحطيم الأسعار

نشر فى : السبت 2 أبريل 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : السبت 2 أبريل 2022 - 8:45 م

المدينة كانت تستعد لرمضان، وهو جالس بوجهه اللامع فى مكان لا يلمحه أحد، بمدخل ممر صغير، إلى جوار صيدلية شهيرة بوسط القاهرة. يدخن فى صمت ولذة سيفتقدها خلال أيام، وقد اكتفى بالابتسام وهز الرأس، كأنه هنا فى الشارع بصفة مراقب، حواسه تستعد للمشاهد التى تتتابع كلما تقدم بنظره، ربما يكون بعضها مثيرا. لم يتوقف شخص واحد منذ الصباح عند ميزانه الكلاسيكى الطويل، ليكتشف إذا ما اكتسب عدة كيلوجرامات إضافية من اللحم والشحم أو يطلب منه التعرف على طوله وبخته، فتلك هى الخدمات التى يقدمها، كما تشير اللافتة التى وضعها كى لا يثير ضجة تزيد من حدة العويل والصراخ. راح يجول بعينيه على الجدران والناس من حوله يتدافعون وسط الزحام، يسيرون كمن يمشى على الصراط المستقيم، فالطريق صار ضيقا جدا بسبب أشغال مترو الأنفاق التى بدأت منذ صيف 2017 ولا يعرف متى ستنتهى.
المارة لا يكفون عن السباب وسط حركة هائجة مائجة، وهو على غير استعداد أن يجاريهم. لم يبقَ ثمة نظام والاتساع قل، فلم يعد هناك مكان للفرد، بل كل شىء بالجملة حتى المشى ذهابا وإيابا يجب أن يتبع مسيرة الجمع، إذ تقلصت مساحة الرصيف بسبب البضاعة المعروضة من ناحية والسور المعدنى الذى فرضته أعمال المترو من ناحية أخرى.
• • •
الياميش يباع بكثافة فى محيط سينما ريفولى التى اعتاد أن ينام بها فى فترة القيلولة، قبل أن يندلع فيها حريق ضخم منذ حوالى أربع سنوات ويتم إغلاقها، فالنار أتت على صالة العرض بالكامل وعلى الدور العلوى، فقط ظلت الواجهة والجدران الصفراء الباهتة للمبنى الذى يرجع تاريخه لنهاية أربعينيات القرن الفائت. التهم الحريق جزءا من ذكرياته هو شخصيا ومن ذاكرة المدينة، فمسرح وسينما ريفولى شهدا حفلات فريد الأطرش وعبدالحليم وأم كلثوم.
صياح الباعة يعلو ويعلو للإعلان عن أسعار الياميش وتحفيز الزبائن العازفين عن الشراء، فى حين يتوقف البعض لاختيار ما يريد «لزوم الخشاف» رغم الغلاء، ويزداد الصياح ويعلو أكثر على بعد خطوات حيث يقام «مهرجان تحطيم الأسعار». المحلات المتتالية قررت مجابهة التضخم على طريقتها، أغانى المهرجانات تروج لبضاعة متنوعة بأسعار مخفضة، وبما أن الصيف صار فجأة على الأبواب فقد ازداد التدافع على الملابس الجاهزة، خاصة مع وجود زبائن جدد، ناس لم يكن من عادتهم التسوق فى مثل هذه الأماكن، ينتمى معظمهم للطبقة الوسطى التى صارت تلجأ لمتاجر الملابس الرخيصة وأحيانا المستعملة، لكى تتغلب على الانخفاض الملحوظ فى الدخل بعد قرارات التعويم وإعادة توجيه الدعم، دون تحريك الأجور بشكل يتناسب مع معدلات التضخم. أفراد نزلوا إلى أسفل درجات السلم الاجتماعى بعد أن تدحدر بهم الحال، لم يعد فى استطاعتهم الوقوف فى مكانة ثابتة بين الثراء والفقر أو تحمل الصدمات الاقتصادية، كما فى السابق.
• • •
صاحب الميزان و«جهاز تحديد البخت» يراقب انفعالاتهم بدقة ويرى ارتباك البعض وتوجسه. يختلط الحابل بالنابل. وصل الازدحام منتهاه، مع ارتفاع صوت العجلات وصراخ الزمامير وزئير محركات السيارات وزعيق الباعة والمارة. تداهمه روائح مركبة وهو جالس على كرسيه، بإمكانه أن يميز روائح البخور ودخان السجائر وعصير القصب وصلصة الكشرى والبصل المحمر التى تتداخل بشكل يومى، وأحيانا تغلب عليها صنة البول بشكل مباغت.
فى المساء حين يذهب إلى منزله تظل هذه الروائح عالقة بملابسه، وأصوات الشارع وإيقاعات «مهرجانات تحطيم الأسعار» لا تغادر رأسه، صارت هى الموسيقى الخلفية لحياته. هو يسكن فى مكان تتساند البيوت حتى لا تنهار، والنساء جالسات على العتبات ينسجن الأحاديث بدلا من الضجر. تتسارع أنفاسه بمجرد التفكير فى إيقاعات وسط المدينة اللاهثة، تلك التى كانت قطعة من أوروبا فى وقت من الأوقات، يلتجئ إلى بواكيها وممراتها السحرية التى يعرفها عن ظهر قلب والتى يحتمى بها من الزمن. لا يعرف إلى متى ستظل هذه الشرفات المستطيلة بحديدها المشغول فوق رأسه، فقلب المدينة لم يكن يستعد فقط لشهر رمضان بل لأشياء أخرى كثيرة قادمة لا يعلمها على وجه التحديد، لكنه لا يرتاح لها، ولا يشعر أنه سيحتفظ بملاذه الآمن طويلا.

التعليقات