دأبت الأدبيات السياسية العربية، على تداول مصطلح «النكسة»، للإشارة إلى الهزيمة المروعة، التى منيت بها الجيوش العربية أمام جيش دولة الاحتلال الإسرائيلى فى حرب يونيو من عام 1967. تلكم، التى تفنن العدو فى تحويلها من مجرد هزيمة عسكرية، تجرعت مرارات مثيلاتها، دول وشعوب شتى، على مر التاريخ؛ إلى انحدار ثقافى واضمحلال حضارى.
عقب انتزاعه نصرًا سورياليًا سهلًا، فى حرب درامية عبثية، عمد المعتدى الإسرائيلى إلى اقتناص المزيد من المغانم الاستراتيجية المجانية، عبر تكريس «ثقافة الهزيمة» فى نفوس العرب. بحيث يغرس فى وجدانهم انكسار الإرادة، فيستسلم وعيهم لشعور مُحبط بالانهزامية، ويتملكهم الخنوع؛ حتى يفقدوا الثقة فى إمكانية استعادة المبادرة، والتغلب على عدوهم، خلال جولات المواجهة المرتقبة فى قادم الزمن.
رغم هول الخطب، كان النجباء من صناع القرار، والنخب الثقافية الوطنية الصحيفة فى مصر، وقت ذاك، على علم ووعى كاملين بحقيقة ذلك المخطط الصهيونى الشيطانى. ومن ثم، انبرى المخلصون والشجعان منهم فى استنهاض الأمة، وتحصينها ضد وباء ثقافة الهزيمة. فعسكريًا، أبت القوات المسلحة إلا الانخراط فى عمليات رد الاعتبار واستعادة الثقة، من خلال توجيه ضربات نوعية، موجعة، متتالية وناجحة للعدو، فى غير موضع. أما ثقافيًا وفنيًا، فقد تلاحمت إسهامات النخب الفكرية والإبداعية لشحذ الهمم.
نسجت الإرادة الحربية العربية، التى أنتجت نصر أكتوبر المجيد، معالم «روح أكتوبر»، التى أفشلت مخطط إسرائيل لتكريس ثقافة الهزيمة لدى العرب. فلقد أظهرت حرب رمضان العظيمة، مدى تماسك الجبهة الداخلية، وتلاحم الشعب مع جيشه وشرطته. فخلافًا لما هو معتاد، عالميًا، وقت الحروب؛ لم تسجل أقسام الشرطة المصرية أية جريمة، كما انعدمت شكاوى شح السلع وارتفاع أسعارها، واصطفت مؤسسات الدولة وجميع طوائف الشعب، ضمن التزام وطنى جامع بالانضباط والإجماع على تحرير الأرض. وكرست الجماعة الوطنية جهودها كل لمساندة قواتها المسلحة، وتبارى الجميع فى دعم المجهود الحربى، بغير كلل ودونما تقاعس، بالمال، الجهد، وحتى الكلمة والإبداع الفنى. وفى التاسع من أكتوبر 1973، تلألأت الصفحة الأولى لجريدة الأهرام الغراء بمقال للكاتب والأديب الفحل، توفيق الحكيم، طيب الله ثراه، عن نصر أكتوبر الخالد، بعنوان: «عبرنا الهزيمة». تحدث فيه عن تجاوز المصريين لهزيمة يونيو1967، من خلال عبورهم قناة السويس، تحرير سيناء وتدمير أسطورة الجيش الإسرائيلى، الذى زعم أنه لا يقهر. الأمر الذى أوجد حالة خلاقة وإبداعية، هى «روح انتصار أكتوبر العظيم»، التى يمكن للمصريين الانطلاق منها نحو غد أكثر إشراقًا. وما إن طالع الشاعر المبدع عبدالرحيم منصور، ذلك المقال المؤثر، حتى استنفره عنوانه الموحى البليغ، ليشرع فى تحويله إلى ملحمة فنية وطنية رائعة. حيث استوحى منه كلمات أغنيتة الخالدة «عبرنا الهزيمة.. يا مصر يا عظيمة»، التى صدحت بها المطربة المتألقة شادية، من ألحان الموسيقار المُجدد بليغ حمدى.
لقد ضرب لنا نبينا المصطفى، صلى الله عليه وسلم، أروع المثل فى دحر ثقافة الهزيمة. ففور تلقى المسلمين الهزيمة العسكرية فى غزوة أُحٌد، يوم الخامس عشر من شوال، فى السنة الثالثة للهجرة؛ أبى الرسول الكريم إلا حرمان المشركين من استثمار نتائج المعركة سياسيًا، عبر تحويلهم الهزيمة العسكرية إلى هزيمة نفسية وثقافية للمسلمين. فبينما كان يشفق من عودة جيش الكفار لغزو المدينة مجددًا، قرر بث الرعب فى قلوب أفراده، والتأكيد على أن ما أصاب المسلمين لم يكن ليوهنهم عن مناجزة عدوهم. ذلك أن اقتفاء النبى أثر المشركين بجيش مُثخن بالجراح، لهو خير رسالة للأعداء، بأن المسلمين ما زالوا صامدين قادرين على المواجهة، وأن آلامهم لا يمكن أن تعوقهم عن مواصلة الجهاد. وبناءً عليه، عزم النبى، صلى الله عليه وسلم، على ملاحقة جيش المشركين أثناء عودته إلى مكة. فجمع المسلمين فى اليوم التالى مباشرة، وسار بهم حتى حمراء الأسد، على مسافة ثمانية أميال من المدينة، وعسكر بها ثلاثة أيام، وأمر المسلمين بإشعال النيران لبث الرهبة فى نفوس العدو، كما بعث إليه رسائل التهديد بإصرار المسلمين على دحره. فما كان من أبى سفيان وملأه إلا أن جبنوا عن ملاقاة النبى وأصحابه هناك، ولاذوا بالفرار إلى مكة. وهكذا، حققت غزوة حمراء الأسد هدفها، إذ أظهرت قدرة المسلمين، وهم فى أحلك الظروف، على متابعة التحرك العسكرى خارج المدينة لمطاردة المشركين المنتصرين وردعهم؛ غير جزعين أو وجلين من غدر أعدائهم داخلها، من اليهود، المنافقين وأذناب الكفر. كما استأصل النبى، بهذه الغزوة، بقايا اليأس من قلوب أصحابه، وأعاد إليهم هيبتهم، ووضعهم على طريق التفاؤل والانتصارات. فقد عادوا إلى المدينة أعزة، بروح قوية متوثبة، بعدما أفسدوا انتصار المشركين فى أُحٌد، وأحبطوا شماتة المنافقين واليهود.
فى سفره المعنون: «ثقافة الهزيمة»، حاول فولفجانج شفيلبوس دراسة ثقافة الهزيمة، بين الاستسلام لها والتغلب عليها. وذلك من خلال الوقوف على تجارب الجنوب الأمريكى بعد عام 1865، فرنسا بعد عام 1871، وألمانيا بعد عام 1918. مسلطًا الضوء على طفرة الطاقة المنبعثة من الإذلال العميق، الذى تستجلبه الهزائم. مفسرًا كيفية اكتساب الولايات الجنوبية الأمريكية قوة دفع أسطورية عقب الحرب الأهلية، أظهرتها رواية «ذهب مع الريح» لمرجريت ميتشيل. ثم إبداع فرنسا ابتكارات سياسية، ثقافية وعلمية مبهرة بعد هزيمتها عام1871؛ وصولًا إلى تحقيق الإمبراطورية الألمانية طفرة تقنية ملفتة بعد خسارتها الحرب العالمية الأولى. ويرى، شفيلبوس، أن تحقيق الانتصار العسكرى، لم يعد أبرز الأهداف الاستراتيجية للحرب الحديثة، وإنما إبقاء العدو أسيرًا لتجرع مرارات عار السقوط، والدوران فى فلك لحظة الانكسار. حيث يتجلى النصر الأعظم لأية دولة على أعدائها، فى مواصلة تذكيرها، دائمًا أبدًا، بثقل هزيمتها، مع تشكيكها فى قدرتها على تخطيها. فوحدها الأمم الحيّة، التى تعكف على دراسة عوامل وأسباب هزيمتها العسكرية، بغية العمل على تجاوزها؛ قبل أن تتحول إلى هزيمة نفسية أو انهيار حضارى. ففى حين، يمكن عبور الأولى، بمرورالزمن، تحتاج الثانية إلى أجيال متتابعة لاستئصال شأفتها؛ كونها تتغلغل فى النفوس، وتتلبس الوعى الجمعى، وتؤثر على البنية العقلية والروح المعنوية، وتخلف آثارًا نفسية سلبية، يستعصى على أمم عديدة احتواؤها.
يعتقد الفيلسوف الألمانى، هيجل، أن «ثقافة الهزيمة»، تسود حينما يستسلم الخصم لأسوأ حالة نفسية تتملكه، وهى المتمثلة فى القبول بالأمر الواقع المذرى، دون العمل على تغييره، من خلال استدعاء إرادة النصر .ذلك أن ثقافة الهزيمة لا تدع قيمة أو قامة، إلا وتنالهما بالتشويه، التزييف والتحريف. فحينما تتسلل الهزيمة إلى النفس، تفقدها ثقتها بذاتها، توازنها، وتسلبها بوصلتها، حتى تغدو تبعًا للمنتصر، كما قال، ابن خلدون. وإذا كان التغلب على شعور النفس بالهزيمة يعد أولى مراحل النصر، الذى يبدأ مع النشوة الذاتية به؛ فإن الهزيمة تستوطن النفس فور إحساسها بها، وقبل أن ينتصر عليها عدوها.
لما كان رهط من المثقفين العرب، يؤثر التعاطى مع الهزائم السياسية والعسكرية، انطلاقا من «نوستالجيا الفروسية الزائفة»، فقد أغواه العدوان الإسرائيلى الحالى على الفلسطينيين، لاستدعاء أجواء الهزيمة وثقافتها. وبالتزامن مع التشفى المبطن فيما يقترفه الاحتلال من جرائم إبادة وتطهير عرقى بحق بنى جلدته، منذ الثامن من أكتوبر2023؛ تبارى أولئك الموتورون فى استغلال تصرفات غير مسئولة لمحسوبين على رموز وقيادات عربية، بقصد النيل من تاريخها النضالى، والقدح فى رباطة جأشها، تحديها للهزيمة، وإفشال مخططات العدو لترسيخ ثقافتها. فخلافًا للانتلجنسيا الواعية، التى تصدت، بواقعية ومسئولية وطنية، لثقافة الهزيمة فى بلدان عديدة حول العالم، حتى وأدتها فى مهدها؛ لم يرعو بعض مرتزقة الفكر وأدعياء الثقافة لدينا، عن معاونة عدونا على استحضار الهزيمة وتكريس ثقافتها، من خلال التشكيك فى الثوابت وتشويه الرموز. ذلكم، الذى تمظهر مؤخرًا، فى الجدل البيزنطى المفتعل بشأن، التوقيتات والمآرب المتوخاة، من وراء تسريب تسجيلات صوتية، منتقاه ومجتزأة، من الأرشيف الخاص بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر.