حزن القهوة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 7:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حزن القهوة

نشر فى : السبت 2 أغسطس 2014 - 7:50 ص | آخر تحديث : السبت 2 أغسطس 2014 - 7:50 ص

نبهتنى صديقة جلست بجوارى إلى رجل عجوز يمضى بصينية فضية تحمل أقداحا صغيرة من القهوة، توقف أمامنا منتظرا. مددت يدى إلى قدح تناولته بينما سألته الصديقة إن كان فى استطاعته أن يأتيها بكوب من الشاى، فأومأ برأسه موافقأ.

جرى العُرف على أن يتناول المُعَزّون فى المآتم أقداح القهوة. غالبا ما تأتى خالية مِن السكر مُرَّة الطعم، وكأنها تشارك الجالسين بحضورها القوى ظاهر مشاعرهم وربما باطنها.

ارتبطت القهوة بطقوس ما بعد الموت منذ زمن يصعب تحديده، ارتبط تقديمها ــ سادة ــ بأجواء الحزن والفقدان، يقول الحزانى أنهم يشعرون بالمرارة.. القهوة مرة، لكنى لا أظن أن المذاق هو مبعث الارتباط الوحيد، فمشروبات أخرى عديدة يمكن أن تُقَدَّم خالية من السكر لكنها لا تحل محل القهوة وما تضفيه من جهامة وجِدّ. النسكافيه على سبيل المثال يحمل المرارة ذاتها لكن أحدا لا يقدمه فى مأتم، رغم أنه ــ عدا كثافة القوام ــ يجمع السمات المطلوبة كلها: قتامة اللون ــ مرارة الطعم ــ السخونة، يرجع الأمر أغلب الظن إلى كون النسكافيه مشروبا حديثا نسبيا، لا يتمتع بألفة القهوة وشعبيتها.

•••

فكرت أن جزءا من اعتماد القهوة مشروبا رسميّا للأحزان يكمن فى كونها داكنة اللون، لكن مشتقات الكولا هى أيضا داكنة، مع ذلك فإنها تعلن الفرح لا الحداد. يمكننا أن نلحظ بسهولة كَمّ إعلانات المشروبات الغازية الجالبة للبهجة؛ يمكننا أن نلحظ أيضا أن إعلانات الكولا والعصائر لا تنتهى، بينما لا يوجد إعلان واحد تقريبا يروج لحبوب البن؛ المادة الأولية الخام، دون إضافات ومحسنات ومكسبات لون وطعم. تعكس القهوة الرصانة، بينما تعكس المشروبات الغازية الخفة والانطلاق. هكذا يُصَنِّف بعض الناس الأولى باعتبارها مشروبا للكبار، أما الثانية فللشباب؛ فيها فورانهم وأحيانا مللهم ورغبتهم فى التغيير والانتقال السريع.

على كل حال للفرح مذاق خاص مثلما للحزن أيضا؛ مذاق قوامه الرئيسى السكر ومشتقاته؛ تذخر أعياد الميلاد بمخبوزات متنوعة الأسماء؛ كيك وتارت، وجاتوه. يستقبل الناس رمضان بأنواع من الحلويات الشرقية؛ بلح الشام والكنافة والقطائف، وبعض الأعياد بالكحك، ولا تكتمل احتفالات النجاح أو الترقى وغيرها إلا بمذاق حلو أيا كان. السكر رمز للفرح، وجوده لازم كعلامة من علامات السعادة، ولا يصح أن يبدى الإنسان انبساطه دون اكتمال المؤشرات والعلامات اللازمة.

•••

تشتهر القهوة فى الأذهان برفع القدرة على السهر والانتباه، بعض الناس يفتتحون صباحهم بها ولا يستقيم اليوم دونها. يعانى هؤلاء خلال فترات الامتناع عن القهوة توقا عميقا إلى رشفة واحدة. الارتباط هنا هو ارتباط عضوى بالكافيين؛ المادة الفعالة التى تصنع الأعجايب بالعقل والقلب، أما ارتباط القهوة بمزاج الحزن فيبدو أنه بالأساس ارتباط معنويٌ لا علاقة له بوظائف الجسد. والمعنى أن الأمر قد يتعلق بالمواد والناقلات الكيميائية التى تسهم فى بقاء الشخص يقظا واعيا للحدث، قادرا على استقبال المواسين وعلى تحمل المصاب، لكنه لا يضيف إلى حزنه ولا يأخذ منه الكثير.

إذا أراد صديقان أن يلتقيا قال أحدهما للآخر: «أعزمك على قهوة ونتكلم»، أو قالت واحدة للأخرى «نشرب الشاى سويا».. لم أسمع أحدا يقول نأخذ بيبسى مع بعض أو نتقابل على فنجانين عصير مثلا.. القهوة المقصودة هنا لا تعنى حرفيا المشروب المصنوع من حبوب البن، بل هى الفترة التى تنقضى فى الدردشة والحديث ريثما ينتهى إعداد القهوة واحتساؤها رويدا.. والمعنى أن ثمة لقاء وجلسة وحوارا ومسامرة، لا تسمح بها المشروبات الباردة التى سرعان ما تنتهى فى رشفتين أو ثلاث.

•••

لاحظت أن بعض المشروبات الدافئة صارت اليوم تزاحم القهوة فى سُرَادقات العزاء؛ راح المضيفون يحملون صَوانٍ عليها أكواب شاى، ثم جاورتها أكواب اليانسون والنعناع. أقبل أشخاص كثيرون على تلك المشروبات؛ الأخف طعما ووطأة، والأميل لأن توصف بأنها مشروبات متعادلة المشاعر. تساءلت صديقتى إن كان الأمر سوف يشهد تطورا أكبر، فتُضَافُ إلى أكواب الشاى واليانسون علب الكولا والفانتا والعصائر فى مستقبل قريب، عاكسة تطور قدرتنا فى التعبير عن المشاعر. أجبت: ربما؛ وعن نفسى أحبذ الوقوف عند هذه اللحظة، حيث لا يزال للقهوة مقامٌ محفوظٌ يحميها من النسيان.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات