ما وراء الكذب والثقة - مواقع عالمية - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما وراء الكذب والثقة

نشر فى : الأحد 2 أغسطس 2020 - 8:20 م | آخر تحديث : الأحد 2 أغسطس 2020 - 8:20 م

نشر موقع قنطرة مقالا للكاتب «خالد الخميسى» تحدث فيه عن الكذب فى المجتمعات العربية كمؤسسة متكاملة الأركان، فالطفل ينشأ على أن الكذب هو أداة النجاة، والمواطن العربى يعتبر كاذبا حتى يثبت العكس... نعرض منه ما يلى:

للجسور بين البشر أسس.. الصدق أهمها
هل من حقى أن أحلم أننى سوف أعيش اليوم، الذى سوف يتم التعامل معى باعتبارى صادقا إلى أن يثبت العكس؟
هل نكذب، لأن النظام الاجتماعى العربى يعتبرنا، على أية حال، كذابين؟ أم أن النظام الاجتماعى يزعم هذا الافتراض لأننا نحن العرب بالفعل كاذبون أكثر من غيرنا؟
كيف يمكن لجماعة بشرية أن تبنى الثقة، وهى الأساس لصحة أداء المجتمع، والكذب يضرب جذوره فى عمق القنطرة، التى تسعى للربط بين هؤلاء؟
هكذا تساءل الكاتب، وللمرة الأولى، عند زيارته الأولى للولايات المتحدة عام 1998.. فكانت هذه الرحلة بالنسبة له بمثابة صدمة حقيقية. بدأت عندما عرف أن لا وجود لبطاقة شخصية فى هذا البلد. فسأل كيف أثبت هويتى؟ «تثبت هويتك بالقول». فلو لم يرغب الأمريكى فى إصدار رخصة قيادة، أو جواز سفر، ولم يكن يحتاج إلى العمل، فلا إثبات هوية لديه.
أدرك الكاتب بعد أيام قليلة قضاها فى نيويورك ثم فى واشنطن أن حالة منح الثقة فى الآخر هى حالة اجتماعية عامة، وإذا ثبت العكس فعلى الكاذب أن يتحمل التبعات القانونية... وهذا بعكس ما رآه الكاتب فى دولته، فالكاذب لا يتحمل أى تبعات لأنه من البداية يفترض الجميع كذبه.
***
لا يتناول الكاتب الكذب باعتباره ظاهرة إنسانية قائمة، وإنما عن الكذب باعتباره مؤسسة اجتماعية متكاملة الأركان. فمنذ الخطوات الأولى للطفل فى بلادنا، تفترض الأم فيه الكذب. أأنت من كسر الكوب؟ لا لست أنا. بل أنت بالتأكيد. يحتار الطفل كثيرا أمام إصرار أمه أنه كاذب، لا يفهم فى البداية الأمر. يسعى للبرهنة عن صدقه، وبعد أن يفشل مرة ثم مرات، يجد الحل فى نسيان الأمر، فلا البكاء أتى بثمار ولا التشنج وخبط الأقدام على الأرض.
ثم يبدأ الأهل أمام طفلهم بصبغ الكذب بألوان عدة. فهذا أبيض بهدف المجاملة، وهذا رمادى وهدفه الاحتماء من الغضب، وهذا أسود وهو ما تفترضه الأم فى طفلها. يتعلم الطفل أن الحقيقة لا وجود لها، إنما سرديات قائمة على التراضى الاجتماعى، والملاطفة، أو سرديات قائمة على الخوف من السلطة الغاشمة.
ومع إدراك الطفل قسوة التراتبية القمعية يدرك أن ما يستمع إليه من أكاذيب هو أداة النجاة ممن يقيمون فى المرتبة السلطوية الأعلى. يدخل الطفل المدرسة ويجد شك المدرسين فى أقواله بطل المشهد. وتتضح المسألة وسط البيئة المدرسية فى ضرورة أن يقوم بالتفرقة بين الأفكار النظرية الرنانة وبين الواقع. بين النصوص ثقيلة الظل عن أضرار الكذب التى تمتلئ بها صفحات مقررات اللغة العربية والتربية الدينية، وبين ما يقوم به المدرس والأب والقريب من ممارسات قائمة على الكذب. يحدث هنا الانكسار العظيم لخلق الفج بين عالم الأخلاقيات من ناحية وعالم الواقع المعاش من ناحية أخرى.
ومع دخول الطفل لقسم الشرطة لأول مرة لاستخراج بطاقة شخصية يتضح له أن المهم فى القول هو ما ينتظره منك الموظف أو أهلك. فمقر السكن هو المقر الذى من مصلحة العائلة ذكره لأسباب قانونية ما، وديانتك هى ديانة أجدادك وليس يهم إذا كنت تنتمى بالفعل لأى ديانة، وتاريخ ميلادك هو المذكور فى شهادة ميلادك وليس يهم إذا كان هذا التاريخ هو بالفعل يوم مولدك. الحقائق فى هذا المجال لا معنى لها.
ومع الزمن يفقد هذا الشاب مفاهيم الدقة التى يحتاجها للتقدم. يتذكر الكاتب مع محاضرته الأولى لعلم الإحصاء فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حيث قال لهم أستاذ المادة أنه فى عمليات استطلاع الرأى أو فى البحث الميدانى الإحصائى يجد الباحث فى مصر مشكلة كبيرة ألا وهى كذب المسئول. وأعطانا مثال على ما يقول: فإذا كان سؤال الباحث عن عدد أبناء المسئول. وهو سؤال مباشر وبسيط ورقمى، لا لبس فيه. هنا سوف يفكر المسئول مباشرة، ليس فى حقيقة عدد أبنائه، وإنما عن أسباب السؤال، وعن مصلحته المالية. فلو زاد العدد أمن المحتمل أن يحصل على معونة مالية، أم على العكس قد يؤثر عليه بالسلب. قد يفكر بالحسد إذا كان عدد أبنائه الذكور كبيرا. وقد يتصور أن الحكومة قد تضره ضررا ما من جراء هذا السؤال. المهم أن إجابة المسئول سوف تأتى وفقا لما يتصوره عن الإجابة النموذجية.
***
يستطرد الكاتب قائلا إنه حاول أكثر من مرة أن يشرح لأصدقاء من أوروبا السبب وراء ترسانة الأكاذيب التى يبنيها المهاجرون الفقراء من بلادنا لمحاولة الحصول على أكبر استفادة ممكنة من شبكة الخدمات الاجتماعية التى تقدمها هذه الدول الأوربية للفقراء، ولكن كان الأمر دائما فى منتهى الصعوبة. فالعودة إلى نظرية الكذب كأداة لمقاومة القمع والقهر والديكتاتورية عبر القرون ليس كافيا وحده.
حكى لهم أن الخوف من سيف السلطان ورجاله، وخوف الفقراء من بطش الحياة، يجعل حتى الشجعان يلجأون للكذب. فاللجوء إلى الكذب يمكن أن يعكس رغبة لكسب ود الآخرين والقبول الاجتماعى، وهو أمر خاص بالمجتمعات التى تلعب فيها العائلة الكبيرة دورا هاما فى التركيب الاقتصادى والسياسى. ويأتى السؤال: هل كل هذا يبرر أن يتحول الكذب إلى آلية تلقائية للسلوك؟
فى المجتمعات العربية هناك احتياج لهذا الود المصطنع الذى يعد بمثابة الرباط المقدس بين الناس بعضهم بعض، هذا الرباط الهش والثمين الذى يعبر عنه المثل المصرى: «لقينى ولا تغدينى». بمعنى قم بدعوتى أمام الناس ولا يهم إذا كنت سوف تقدم لى بالفعل الغذاء. وهى الدعوة الجوفاء التى نستمع إليها يوميا ونحن نسير فى أى قرية عربية عندما نمر برجل جالس أمام منزله فيقول بأعلى صوته: تفضل. تفضل. يكررها أكثر من مرة. هو بالتأكيد لا يقصد أن يقوم بدعوتنا، ونحن نعرف أنه ليس علينا إلا أن نرد: المرة القادمة إن شاء الله. فتفضلوا هذه ليست أكثر من: «عزومة مراكبية». وهى دعوة اثنين من المراكبية عندما يتقاطع القاربان فى النهر. فليس من الممكن أن يقذف أيهما بنفسه فى النهر لكى يستجيب لدعوة الآخر. شفرة اجتماعية يدعوها البعض «اللطف والكياسة» التى يتميز بها العربى، ويدعوها البعض الآخر «أكاذيب» نطلقها وليس فى نيتنا الفعل.
***
يقول الكاتب أن الشاب يدخل عقده الثالث ويدرك أن الكذب مهارة أساسية للترقى الاجتماعى مثله مثل النفاق. فحالة التباهى بين الناس بالقدرة على الكذب جلية واضحة. فمن يكذب بصورة أفضل يمكنه أن يحقق مزيدا من النجاح. انتشر فيديو فى مصر عن طالب لحظة خروجه من لجنة الامتحان. سألته المذيعة إذا كان الامتحان صعب. فأجاب بصراحة أنه لا يعرف لأنه لم يذاكر وإنما جاء للجنة ليغش من زملائه. ثم قام بدعوة الطلاب ألا يبذلوا مجهودا فى المذاكرة، وأن يكتفوا بالغش. أما عن المراقبين فمن السهل إخافتهم ليتركوا الممتحنين فى حالهم. الغش كما الكذب يدوران داخل دائرة الخوف.
***
أحد أكبر الخسائر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى يتكبدها الوطن هى أزمة الثقة بين الناس بعضها وبعض، وبين الحكومة والشعب. فبالنسبة للحكومة بكافة مؤسساتها من مصلحة الضرائب إلى وزارة الداخلية مرورا بالتأمينات الاجتماعية وصولا إلى هيئة النقل العام فالمواطن كاذب. أما بالنسبة للشعب فالحكومة غير جديرة بالثقة ومسئولوها لصوص وجميع السياسات المتبعة هى خطوات محسوبة لمزيد من الإذلال الاقتصادى للشعب.
لا يمكن أن نقيم جسورا بيننا دون بناء جسور الثقة. ماذا لو منح الجميع الثقة فى الآخر؟ ما هو ثمن الثقة؟
يمكن أن نخسر فى البداية، يمكن أن يزيد الكذب فى السنوات الأولى، ولكن لا شك عندى أن معدل الأكاذيب والخسائر سوف ينكسر بعد سنوات قليلة. فلا أمل لدينا لتحقيق أى تقدم سوى أن نصدق الآخر.

النص الأصلى

التعليقات