هل ننجح فى اختبار مراجعة السياسات؟ - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 8:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل ننجح فى اختبار مراجعة السياسات؟

نشر فى : الإثنين 3 أغسطس 2015 - 11:25 م | آخر تحديث : الإثنين 3 أغسطس 2015 - 11:25 م
المراجعات مطلوبة فى زمن رسم الخرائط الجديدة للمنطقة، والسؤال الآن هو: هل نحن جاهزون لذلك أم لا؟

(١)
فى الثلاثين من شهر يوليو الماضى نشرت جريدة «الشروق» مقالة للأستاذ جميل مطر ــ المحلل السياسى. انتقدفيها غياب مصر عن الخرائط الجديدة التى تشكلت فى المنطقة، خصوصا فى علاقاتها بإيران، وقال صراحة انها التزمت بصداقات دولية وإقليمية جعلتها تصطف فى الجانب المخاصم لإيران، مشيرا إلى الدور الذى لعبته واشنطن فى ذلك. وكانت النتيجة ان مصر رغم وزنها الكبير ابتعدت عن متابعة ما يحدث من تطورات داخلية فى إيران على مختلف الأصعدة. ودعا الكاتب فى ختام مقالته إلى مراجعة مصر لموقفها وتصوير الخطأ الذى وقعت فيه خلال العقود الثلاثة الماضية، بحيث يصبح فى مقدورها ان تسهم فى تشكيل بيئة إقليمية جديدة فى الشرق الأوسط.
هذا الكلام الجديد نسبيا بين المحللين السياسيين المصريين كان له صداه السريع فى الساحة السعودية. فقد نشرت صحيفة «الحياة» اللندنية مقالة مؤيدة له يوم ٢ أغسطس للكاتب السعودى البارز داود الشربان، قالفيها ما يلى: ما قاله جميل عن كسب مصر خصومات دول بسبب انحراف سياستها الخارجية وراء صداقات دول كبرى ينطبق على آخرين (لاحظ الإشارة).. ومن يقرأ تاريخ العلاقات العربية التركية والعلاقات العربية الإيرانية خلال العقود الخمسة الماضية سيجد أن تلك العلاقات تتذبذب صعودا وهبوطا استنادا إلى تأثر هذه العلاقة بمصالح ورغبات دول أخرى.. ولك أن تتخيل حال الوضع فى الشرق الأوسط والخليج تحديدا، لو ان مصر والسعودية ظلتا على علاقة منفتحة مع إيران وتركيا خلال العقود الماضية. لكن الذى حدث ان البلدين فرطا بهذه الفرصة من أجل دول كبرى، وأحيانا دول شقيقة صغيرة تحرض على إيران فى العلن، فى حين تقيم معها علاقات تصل إلى حد الشراكة، وختم الكاتب مقالته بقوله ان انفتاح السعودية على مصر وإيران والتفاهم معها بشكل مباشر يصب فى مصلحة الأمن القومى للبلدين والأمن الإقليمى فى المنطقة. فضلا عن ان انفتاح القاهرة على طهران يجب ألا يثير حساسية سعودية، وانفتاح الرياض على أنقرة يجب ألا يغضب مصر، طالما أن البلدين جناحان فى جسد واحد.

(٢)
هذه لغة جديدة فى الإعلام المصرى والسعودى تتجاوز الخطوط الحمراء التى استقرت فى وسائل الإعلام. صحيح انها لا تعنى حدوث أى تغير سياسى فى مواقف البلدين، وان الكاتبين يعبر كل منهما عن رأيه الخاص ولا يحسب على دوائر صنع القرار فى مصر أو السعودية، إلا أننا نعلم جيدا ان إطلاق دعوات من ذلك القبيل الذى عبر عنه الكاتبان لم يكن مرحبا به أو غير مسموح به بين السياسيين فضلا عن المثقفين. ناهيك عن ان الاقتراب من الملف زاوية التقارب ومد الجسور ظل بمثابة مغامرة تكلف صاحبها الكثير وتفتح عليه أبواب التشكيك والتنديد والاتهام، ولا ينبئك فى ذلك مثل خبير. وحين تصدر الدعوة عن كاتبين مستقلين نجا كل منهما من لعنة التصنيف واختام الاعتماد والتنميط، فإن ذلك له أهميته الخاصة التى لاتخفى دلالتها. فى هذا الصدد أزعم بأن الدعوة التى تم إطلاقها تستدعى عدة ملاحظات منها ما يلى:
< إن مفاجأة الاتفاق بين واشنطن ومعها الدول الكبرى من ناحية وطهران من ناحية ثانية هزت بعض أعراف السياسة الخارجية فى الدول العربية والخليجية منها بوجه أخص. وأحدثت الهزة حالة من الإفاقة لدى الجميع، نبهتهم إلى أن ثمة خرائط وتوازنات جديدة فى المنطقة، الأمر الذى فتح الأبواب واسعة لمراجعات شملت ما بدا انه أعراف أو «ثوابت» فى المرحلة السابقة. وما عبر عنه الكاتبان يدخل ضمن تلك المراجعات.
< إن المراجعات لا تعنى بالضرورة اتفاقا فى السياسات، لكنها تعنى أمرين بالدرجة الأولى هما إعلاء المصالح الاستراتيجية العليا من ناحية، وترشيد اسلوب إدارة الاختلاف من ناحية ثانية، كما انها تحتمل من ناحية ثالثة القبول بالاتفاق فيما هو مرحلى مع استمرار الاختلاف حول ما هو نهائى. وهو الحاصل الان مثلا فى علاقة واشنطن مع طهران التى ينطبق عليها ذلك التوصيف. إذ رغم اتفاقهما فى الوقت الراهن إلا أن كل طرف له أهدافه المغايرة فى نهاية المطاف.
< إن الكاتبين اتفقا على ان مخاصمة الدول العربية لإيران لم تتم بناء على تقدير وحسابات للمصالح العليا لدول المنطقة بقدر ما كان ذلك تجاوبا وانصياعا ــ بالدرجة الأولى ــ لسياسة واشنطن وحساباتها.
< فى الحالة المصرية على الأقل فإن المؤسسة الأمنية التى كانت لها الكلمة العليا فى التعامل مع الملف الإيرانى ضمن ملفات أخرى حساسة، اخطأت فى الحساب والتقدير، وقدمت المصالح الأمنية الضيقة على اعتبارات الأمن القومى الأمر الذى أدى إلى تهميش دور مصر واتاح الفرصة لبناء الأمن الإقليمى فى المنطقة بعيدا عنها.

(٣)
لا استطيع أن أفصل بين رياح المراجعات التى تلوح فى الأفق وبين الزيارة التى قام بها لمصر هذا الأسبوع (الأحد ٢/٨) وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى، ورغم انها قدمت فى الإعلام المصرى بأنها استئناف للحوار الاستراتيجى الذى انطلق عام ١٩٨٨، إلا أن إشارات عدة دلت على ان الشأن الإقليمى فى الزيارة كان نصيبه أوفر من الشأن المحلى، بكلام آخر فإن زيارة الوزير الأمريكى التى استغرقت يوما واحدا ركزت على علاقات مصر بدول الإقليم بأكثر مما تناولت الأوضاع الداخلية فى مصر. وهو الجانب الذى أبرزته بعض الصحف المصرية. صحيح ان الرئيس المصرى أصدر قانونى مباشرة الحقوق السياسية ومجلس النواب قبل ٢٤ ساعة من وصول السيد كيرى (يوم السبت ١/٧)، وهو ما قد يكون مجرد مصادفة، إلا أنه يمكن ان يقرأ بحسبانه إشارة ايجابية إلى اعتزام مصر الالتزام بالنهج الديمقراطى، وهو الأمر الذى يثير لغطا من جانب بعض النواب الديمقراطيين فى الكونجرس الأمريكى، إلى جانب ملفات أخرى تتعلق بأوضاع حقوق الإنسان وسقف الحريات المتاح فى مصر. وهو ما تحدث عنه كيرى فى مؤتمره الصحفى.
التقرير الذى نشرته جريدة «الشروق» للزميلة دينا عزت فى اليوم الأول من أغسطس ربما كان الأكثر دقة فى تغطية زيارة وزير الخارجية الأمريكى. إذ وصفتها بأنها بمثابة «عودة محدودة» للحوار الاستراتيجى بين البلدين الذى بلغ ذروته فى تسعينيات القرن الماضى. وأشار التقرير إلى أن كيرى سيبحث فى القاهرة دور مصر فى مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة بالتعاون مع حلفاء أمريكا الإقليميين الآخرين بما فى ذلك تركيا وإسرائيل. أضاف أن كيرى سيطرح على القاهرة بخاصة خلال لقائه مع الرئيس السيسى آفاقا لتعاون إقليمى يكون للقاهرة وطهران دور واضح فيه، خاصة فيما يتعلق بمحاربة تنظيم داعش. ونقل التقرير عن دبلوماسى أمريكى قوله إن الوضع الآن أكثر ملاءمة لترتيب ذلك التعاون، بعدما أخذت إيران على نفسها تعهدات واضحة فى إطار التفاوض مع الدول الست بشأن عدم استهداف الأمن القومى لحلفاء واشنطن فى الشرق الأوسط، بما فى ذلك إسرائيل ومصر والسعودية.
خلص التقرير المنشور إلى ان «داعش وإيران وكذلك سوريا واليمن وتطورات الأوضاع فى الأراضى الفلسطينية المحتلة ستكون المحور الأساسى لما تصفه المصادر المصرية والأمريكية بالنقاشات الموسعة التى ستدور بين الوفدين المصرى والأمريكى فى جولة الحوار الاستراتيجى».
[< ملحوظة هامشية: فى كل ما نشر عن الزيارة فإن الإعلام المصرى تجاهل تماما ولم يشر بكلمة إلى دعاوى تآمر الولايات المتحدة على النظام المصرى وتعاون المخابرات المركزية الأمريكية فى ذلك مع التنظيم الدولى للإخوان ودعم واشنطن للجماعة، إلى غير ذلك من الدعاوى التى جرى تسويقها فى وسائل الإعلام طوال العام الماضى.].

(4)
هى مصادقة لا ريب، ان ترتفع بعض الأصوات فى العالم العربى داعية إلى إعادة النظر فى المواقف وتغليب الرؤية الاستراتيجية فى التعامل مع إيران وتركيا باعتبارهما دولا كبرى محورية فى المنطقة، وان يتزامن ذلك مع جولة وزير الخارجية الأمريكى التى أثارت نفس الموضوع. وهو ما يسوغ لى أن أقول بأن ثمة استشعارا لفض الاشتباك وانهاء العداوات والاحتراب الداخلى بين الدول المهمة فى المنطقة، لان ثمة خطرا متناميا يهدد الجميع تمثله داعش والجماعات الإرهابية المماثلة.
لا تفوتنا هنا ملاحظة أمرين من الموقف الأمريكى. الأول ان الرئيس باراك أوباما يقترب من انتهاء ولايته الثانية، وهو يسعى جاهدا لتعزيز انجازاته السياسية التى سيدخل بها إلى تاريخ الولايات المتحدة، وهو ما تمثل حتى الآن فى إعادة العلاقات المقطوعة مع كوبا منذ خمسين عاما، وتوقيع الاتفاق النووى مع إيران. وهو يريد أيضا ترتيب أوضاع الشرق الأوسط بحيث تتولى دوله أمرها، لكى ينصرف للتعامل مع التحدى الأكبر الذى باتت تمثله الصين. إذ بالمقارنة فإن صراعات الشرق الأوسط باتت هما هامشيا وفرعيا إذا قورن بالهم الأساسى الذى تلوح به الصين الصاعدة بقوتها الاقتصادية وتطلعاتها السياسية فى شرق آسيا.
الأمر الثانى ان الإدارة الأمريكية أدركت أن مؤشرات الصراع العربى الإسرائيلى تراجعت بشكل ملحوظ فى المنطقة. وان تفاهمات إسرائيل المعلنة وغير المعلنة مع بعض الدول العربية المهمة وصلت إلى درجة غير مسبوقة فى التنسيق وتبادل المصالح، خصوصا مع مصر، حتى أصبحت إسرائيل تصنف ضمن محور الاعتدال فى المنطقة. وهو ما دفع واشنطن إلى تأييد انهاء عمل القوات متعددة الجنسيات الموجودة فى سيناء لضبط الحدود المصرية الإسرائيلية (طبقا لاتفاقية السلام الموقعة عام ١٩٧٩). إذ اعتبرت انه لم يعد هناك مبرر لاستمرار وجود تلك القوات فى ظل التفاهمات الحاصلة بين مصر وإسرائيل (مصر عارضت الاقتراح).
لسنا نتحدث عن أقدار مكتوبة ولا عن أوضاع مفروضة ولكن الأكيد اننا بصدد رياح تهب وتفاعلات تلوح فى الأفق وسيناريوهات تعد لمستقبل المنطقة التى نحن جزء منها، وعلاقتنا بذلك كله ــ سلبا أو ايجابا ــ محكومة بالإرادة السياسية أولا وبمقدار عافيتنا وحصاناتنا على أرض الواقع ثانيا. كما انها محكومة أيضا بقدرتنا على تحرى المصالح الاستراتيجية العليا وعزوفنا عن الاستدراج إلى التورط فى الحسابات الآنية والضيقة. إلا أن السؤال الذى أكرره دائما ولا يمكن تجاهله فى هذا السياق هو: هل تستطيع ان تتصالح الحكومات مع محيطها قبل ان تتصالح مع شعوبها؟
فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.