زياد.. ضحكاتك أزهرت زهرًا - خولة مطر - بوابة الشروق
الأحد 3 أغسطس 2025 11:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

زياد.. ضحكاتك أزهرت زهرًا

نشر فى : الأحد 3 أغسطس 2025 - 8:10 م | آخر تحديث : الأحد 3 أغسطس 2025 - 8:10 م

«لو عددتُ درجات بيتى

وكم من مرةٍ صعدتُها

لكان هذا درجًا طويلًا

يخترق السحب

ولو عددتُ ضحكات أمى

لرافقتنى طوال صعودى

ووقعتْ من بعدى الضحكات على الدرج

وأزهرتْ زهرًا».

زياد الرحبانى - صديقى الله

 

«إن لم أكن فرحًا

لا أستطيع أن أُصلى

ما مِن مرة صلّيتُ

إلا وفى قلبى

عصفورٌ يلعب

وغصنٌ يُلوّح».

 

كنا نتمشّى، متسكّعات كعادتنا، بعد نهاية يوم دراسى طويل فى الجامعة الأمريكية فى بيروت. فما إن ينتهى اليوم بعد الظهيرة، حتى نهرول باتجاه شارع الحمرا، ونبدأ المشوار بين الموكا أو الأولمبى، ثم سينما، ثم مشى بين المحلات فى ذاك الشارع الصاخب، نراقب الأرواح المتنقلة بانبهار المراهقات القادمات من الخليج لتوّهن.

• • •

التقينا وتعارفنا فى بيروت، كما كثير من دفعتنا فى ذلك العام، إذ لم نكن من المدارس نفسها، أو ربما من الحى نفسه. هى المتمردة فى شكلها وطباعها، ربما لنصفها اللبنانى دورٌ فى ذلك، فقد كانت من أب بحرينى وأم لبنانية، مربية عرفتها كثيرات من الطالبات والمعلمات ونساء المجتمع. هى التى رحلت سريعًا، وبقى اسمها هناك، ضمن قائمة المربيات العربيات اللاتى تركن بصمة فى مشوار تعليم البنات، ليس فى البحرين فقط، بل فى كل الخليج.

• • •

خرجنا من البوابة الرئيسية للجامعة، واتجهنا مسرعتين حتى شارع عبدالعزيز، صاعدتين باتجاه الحمرا. هناك، فى طرف الشارع، كانت سينما «أورلى»، التى استوقفنا عندها البوستر، فلم يكن لفيلم، بل لمسرحية «نزل السرور». وبينما اندمجنا فى التشاور والحديث عن كيفية حضور المسرحية، التى كُتب عنها الكثير، خاصة فى جريدتى المفضلة «السفير»، لكونها تنتهى بعد موعد إغلاق أبواب سكن الطالبات «مبنى 56»، جاءنا صوتٌ من الخلف ينبهنا إلى أنه قد تكون هناك عروض «ماتينيه»، وقال: «وفيكن تحضروا».

• • •

وما إن التفتنا للتعرف على مصدر الصوت المتلصص على محادثة شخصية بين صديقتين، تفاجأنا بعينين تلمعان خلف نظارة طبية لشاب نحيل، ربما فى عمرنا.. إنه زياد! صرخت هى، أو ربما أنا. وكان نجم زياد الرحبانى قد بدأ بالبروز، وتعرفنا عليه ربما مما سمعناه وقرأناه عنه. وكأى مراهقتين، وقفنا صامتتين، ثم ربما قالت هى، بلهجة أمها اللبنانية: «بدنا نحضر المسرحية بالليل، بس ما فينا بسبب السكن الداخلى». ولا أعرف، أو لا أتذكر، ما حدث سوى أننا افترقنا سريعًا، ربما لخجلنا أو لانشغاله.

• • •

ستمضى سنون طويلة، وسأندم كثيرًا لأننا لم نستفد من الحدث، فقد كان -أو هكذا تصورنا- يريد أن يُقدم لنا تذكرتين هدية. بعدها، سيصبح زياد جزءًا من تفاصيل أيامى، كما حال كثيرين من جيلى، وما بعده. وعرفتُ أن هذا العبقرى لحّن، فى سن مبكرة جدًا، أغانى ستبقى ضمن التراث الموسيقى والثقافى العربى، وليس اللبنانى فقط. بعدها، قرأت أن والده، عاصى، مرض، وطلب منه أن يُلحن واحدة من أهم أغنيات السيدة الأيقونة فيروز، وهى «سألونى الناس».

• • •

سنترك، أنا وهى، بيروت على عجل، نلملم بقايا ذاكرتنا، والقذائف تستوطن سماوات لبنان، حتى هربت العصافير منها. وسيبقى زياد، وتلك الذكرى، عالقين فى بقايا صور بيروت الرائعة الجمال، بل المبهرة. وسيبقى زياد رفيق درب فى الجُمل وبين الفواصل والكلمات، فلا يمكن أن تستمر فى محادثة دون أن تتذكر عبارة له، هنا فى إحدى مسرحياته، أو مقابلاته، أو حتى كتاباته بعد ذلك فى جريدة "الأخبار".

• • •

عند أول عودتى إلى بيروت، بحثتُ عنه، وكنتُ أتنقل من "بلو نوت" إلى أماكن أخرى كان يغنى أو يعزف فيها بين جمهور محبيه، أو فى مهرجانات مثل بيت الدين، حين لم يترك مناسبة تمر دون تعليق على بعض السياسيين الذين تربعوا على المقاعد الأولى كعادتهم.

• • •

وفى يومٍ ما، حضرت الفرصة التى انتظرتها طويلًا، وأخذنى الصديق إبراهيم الأمين معه فى زيارة إلى زياد فى بيته فى الحمرا. وكانت ليلة تُشبه زياد؛ لم يتغيّر منذ أن التقيته قبل سنين طويلة، لا فى الكلام، ولا فى الموقف، ولا فى طريقة الانتقال من حديث إلى آخر، أو التعليق الساخر، ولا حتى فى مواقفه من هذا العالم شديد القبح. كأن زياد لم يكبر، بقى هو المتوهج بوجع الأرض ومَن عليها، الملتصق بالفقراء وكل البشر الحقيقيين مثله، بعيدًا عن التزييف والتملق.

• • •

لذلك، عندما جاء خبر رحيله، وتابعتُ جنازته من شارع الحمرا حتى بكفيا، حزنتُ ببعض الفرح، لأن محبيه، وكل مَن تأثر به ومنه، قد ودّعوه بما يستحقه هو. ولا يزال الكثيرون ينبشون كلمة له هنا، ولحنًا هناك، وموقفًا بينهما.

رحل زياد، الباقى هنا، كملح الأرض هو..

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات