قرار محكمة العدل.. وما بعده - حامد الجرف - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 9:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قرار محكمة العدل.. وما بعده

نشر فى : الأحد 4 فبراير 2024 - 8:10 م | آخر تحديث : الأحد 4 فبراير 2024 - 8:10 م
بعد مائة واثنين وعشرين يوما من انطلاق حرب التحرير الفلسطينية بانتفاضة الأقصى وبعد شهور طالت من غطرسة آلة الحرب الإسرائيلية جريا وراء انتصار دعائى موهوم والذى لم تجد له ساحة إلا تدمير العمران، ولم تجد له محلا سوى الإبادة الجماعية والتهجير القسرى للسكان المدنيين العزل من نساء وأطفال، وكأنها تعيد إنتاج ما تعرض له أسلافهم من هولوكوست النازى، أصدرت محكمة العدل الدولية، باعتبارها الجهاز القضائى الأممى، قراراتها فى دعوى جنوب إفريقيا ضد دولة الاحتلال لمخالفاتها الصارخة والفاضحة والعلنية والموثقة لأحكام المادة 2 من اتفاقية حظر الإبادة الجماعية.
وإن كانت تلك القرارات وقتية بطبيعتها إلا أنها قد حسمت أمورا سابقة عليها بدلالات مقتضاها، فهى تعنى من جهة أولى قبول المحكمة لاختصاصها وردها لدفوع دولة الاحتلال بعدم الاختصاص، وتعنى من جهة ثانية بدلالة ما قررته من تدابير وقتية أنها تحققت من ارتكاب دولة الاحتلال لصور جريمة الإبادة الجماعية، كما حددتها المادة الثانية من الاتفاقية، وهو أمر لا يناحل فيه أحد، فالجريمة فى حالة تلبس بها موثقة صوتا وصورة، وبتصريحات من مسئولين ذهبوا إلى حد المطالبة باستخدام السلاح النووى، فلا أحد ينكر أن ما كان من آلة الحرب الإسرائيلية استهدف التدمير الكلى أو الجزئى للفلسطينيات والفلسطينيين المقيمين فى غزة وبما انتهى لاستشهاد الآلاف أغلبهم من المدنيين وتحديدا من النساء والأطفال الذين حصرهم القصف ولم يجدوا عنه مصرفا، فضلا عن الآلاف مما لحقهم الأذى البدنى بإصابات وجروح، ولا أحد يمكنه أن ينكر أن ما قارفته إسرائيل قد أخضع فلسطينيى غزة لظروف معيشية يراد بها تدمير جماعتهم ماديا، وهى كلها أفعال تشكل صورا لجريمة الإبادة الجماعية، فضلا عن إلجائهم للتهجير القسرى لجنوب القطاع ومحاولات الحكومة الإسرائيلية المعلنة والخفية لتذويب وجودهم القومى بتهجيرهم خارج القطاع كذلك.
وقرارات المحكمة ولو كانت ذات صفة وقتية تقطع كذلك على نحو يقينى وبمقتضى اللزوم العقلى أن دولة الاحتلال لم تكن يوما فى حالة دفاع شرعى عن النفس، فهى ملزمة باعتبارها دولة احتلال بما يناقض ما فعلته كما وأنه لا يقبل الادعاء بحالة الدفاع فى مواجهة شعب محتلة أراضيه، إذ لا دفاع فى مواجهة من كان هو فى حالة دفاع.
كما وأن تلك القرارات تعنى بدلالة الاقتضاء أن ما كان فى 7 أكتوبر وما بعدها من الجانب الفلسطينى لا يمكن اعتباره إرهابا بل مقاومة وطنية مسلحة يحق للشعب المحتلة أراضيه أن يباشرها ذودا عن جماعته الإنسانية وطلبا للاستقلال وإنشاء دولته.
وإذا كانت القيادة الإسرائيلية ممثلة فى رئيس وزراء العدو قد آثر الهرب من مسئولياته وفضائحه الداخلية للأمام بمواصلة حرب التدمير الإسرائيلية للقطاع، فإنه لن يهرب من مسئوليته الدولية وفقا لنص المادة الثالثة من الاتفاقية فهو ومجلس وزرائه مسئولون عن أفعال الإبادة الجماعية والاتفاق على ارتكابها والتحريض المباشر والعلنى عليها وقيامهم بأفعالها، وهم مسئولون هم وسائر من ائتمروا بأمرهم من موظفيهم بل ومن عساه من مواطنيهم شارك فيها بوصفه مواطنا عاديا إذ تقرر الاتفاقية مسئولية من ارتكب الأفعال المؤثمة بمقتضاها سواء أكانوا حكاما أم موظفين أم مواطنين، كما أنهم لن يفلتوا من مسئوليتهم بادعاء أن جريمتهم سياسية إذ لا تعد جريمة الإبادة الجماعية من الجرائم السياسية فى مقام تسليم المجرمين.
• • •
هذا عن مقتضيات تلك القرارات ومآلات مسئولية مرتكبى تلك الجرائم، أما عن طلب جنوب إفريقيا ــ الدولة المدعية ــ بوقف إطلاق النار وعدم تصدى المحكمة له فى قراراتها، فذلك أمر مفهوم ومبرر، فالمحكمة ــ وهى الجهاز القضائى للأمم المتحدة ــ يتوقف اختصاصها عند حدود ما أمرت به من قرارات ملزمة للدول أطراف الاتفاقية وما سينتهى إليه المسار القضائى بعد تقديم دولة الاحتلال ما يؤكد قيامها باتخاذ جميع التدابير فى حدود سلطتها لمنع جميع الأعمال المؤثمة بالاتفاقية، وأن تعمل ــ على العكس ــ باتخاذ التدابير الفورية الفعالة لتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية للشعب الفلسطينى. كل ذلك يعنى بدلالة المقتضى التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار ولو لم تعرض له المحكمة بقراراتها وأغلب الظن أنها ستلتزم بها إذ تمثل لها فى ظرفها المأزوم داخليا ودوليا طوق النجاة بما يحفظ لها كبرياءها القومى وبما قد تستخدمه فى تحسين صورتها الذهنية إذ تلتزم بقرارات المحكمة.
من جهة أخرى، فإن إصدار قرار تنفيذى ملزم بوقف إطلاق النار هو من اختصاصات مجلس الأمن، وهو الأمر الذى صرحت الجزائر بأنها ستذهب إليه عرضا لها عليه، وهو ما لا يتعارض مع أحكام اتفاقية خطر الإبادة الجماعية إذ تؤكد أنه ليس هناك ما يمنع من اللجوء لأجهزة الأمم المتحدة الأخرى لاتخاذ ما تراه مناسبا من تدابير لمنع وقمع أفعال الإبادة الجماعية حال ارتكابها، وهو ما ذهب إليه كذلك السكرتير العام للأمم المتحدة فى تصريح أخير له.
• • •
الأهم من ذلك كله، أن قرارات محكمة العدل الدولية وإن كانت وقتية بطبيعتها ولم تتعرض بعد للموضوع ولا للمسئولية عن تلك الأفعال، قد خلقت واقعا سياسيا مختلفا يتمثل فى نتيجتين.
الأولى: إن الدول التى تماهت مع الموقف الإسرائيلى ودعمته منذ البداية قد أخذت تتراجع عن مواقفها، على نحو ما تبين من تصريح الخارجية الألمانية ومن تصريحات المسئولة فى الاتحاد الأوروبى، إذ لا يمكنهم وهم الدول الأطراف فى الاتفاقية أن يناقضوا بمواقفهم التزاماتهم الدولية على الأقل، الأمر الذى سيخلق واقعا سياسيا جديدا مواتيا للقضية الفلسطينية ولتكريس حل الدولتين مدعوما فى ذلك بالقرارين الأمميين 181 و242 من جهة وبقرارات محكمة العدل الدولية من جهة ثانية وبموقف الرأى العام العالمى من جهة ثالثة. ويكفى أن نذكر بتبرؤ أوغندا من موقف قاضيتها فى محكمة العدل الدولية والتى أخذت اتجاه رفض القرارات وعدم الموافقة عليها (حظيت القرارات بأغلبية 15 قاضيا من أصل 17)، الأمر الذى يشير بجلاء ليس فقط لاتجاهات الرأى العام الدولى بل ومواقف الدول الفواعل والصوامت معا.
كما أن الدول الصوامت قد أخذت فى تجميل مواقفها بعد ما أحدثت تلك القرارات شرخا، إن لم يكن فى شرعيتها ففى مصداقية مواقفها على الأقل. وهو ما يمكن أن تكون له تداعياته على الجغرافيا السياسية للمنطقة فى الأجل المنظور.
وإذا كان التاريخ لا يعيد نفسه بيقين، فإن من دروسه المؤكدة وعظاه المعتبرة وجوب اتساق الحركة الإنسانية للدول والمجتمعات على توالى الزمن فإن لم تتسق مع سوابقها، ألزمتها حكمة التاريخ بذلك الاتساق. فاتفاقية حظر الإبادة الجماعية صدرت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ديسمبر 1948 وكان لإسرائيل بعد قيامها دور محورى فى الدفع بها وإقرارها لما لاقاه أسلافهم من هولوكوست النازى، فلما عادت بهم الكرة ولم يتسقوا مع دروس التاريخ ومارسوا هم أفعال الإبادة الجماعية، أدانتهم الاتفاقية إذ كما تدين تدان. أما ما هو مطروح على دولنا القيام به، فلا شىء بعد أن دجنت اتفاقية أوسلو رام الله ودجنت كامب ديفيد وما بعدها دول ما كان يسمى بالطوق، فالأمل كله والمسئولية كلها بل والشرف كله معقود بالنواصى الفلسطينية المقاومة لاستنجاذ حقوقها وإقامة دولتها.
حامد الجرف قاضٍ مصري سابق
التعليقات