عندما يأتي المساء - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 8:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما يأتي المساء

نشر فى : السبت 4 مارس 2023 - 8:05 م | آخر تحديث : السبت 4 مارس 2023 - 8:05 م
منذ أكثر من ثلاثة أعوام وهو لا يتزحزح من مكانه، عند مدخل الجراج المتعدد الطوابق. كرسى مُجنح ضخم بهتت ألوانه من الشمس، لا يجلس عليه أحد نهارا، ولا يتساءل رواد المكان عن سبب وجوده ولا عن ظروف انتزاعه من بيئته الأصلية. أما من يأتون لصف سياراتهم خلال الفترة المسائية فيعرفون جيدا أنه «فوتيه» العرش الذى يغوص فيه عم فاروق ليستغرق فى النوم ليلا، وكأنه يعلن «أنا سلطان قانون الوجود». هو نفسه لم يهتم بتاريخ كرسيه وحيواته السابقة، يكتفى فقط بذكر أنه «قدييييم»، دون معلومات إضافية.
يمازحه زميل شاب يعمل صباحا فيقول إنه مثل الكرسى الذى يُصر مدير شركة أمازون أن يتركه خاويا فى كل اجتماعاته، مع الفارق أن الأخير يكتب فوقه «العميل» ويشير إلى فريقه ليذكرهم أن عليهم دوما التفكير فى رأى الزبون، الذى يجب أن يكون الغائب الحاضر عند مناقشة تصوراتهم. يضحك عم فاروق ولا يبالى، فهو لا يفهم نصف كلام شباب اليوم الذين يضعون سماعة التليفون المحمول فى أذنهم فيبدون وكأنهم يتحدثون إلى أنفسهم.
• • •
لم يتوقف قط عند طراز الكرسى الذى يُطلق عليه «بيرجير»، هكذا نَطَقَ الكلمة واحد من رواد الجراج الليليين، موضحا أن هذا الموديل تحديدا ظهر فى أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وبما أن الرجل يبدو من طبقة المثقفين فقد ذهب أبعد من ذلك بكثير. حكى له عن قصة «الكرسى الفارغ» لكاتب يُدعى جاليانو: كان هناك كرسى يتوسط ثكنة عسكرية فى إشبيلية، يقف إلى جانبه جندى ليحرسه، وكلما أنهى حارس خدمته جاء آخر ليحل محله بما يضمن حراسة الكرسى ليلا ونهارا. وذات يوم أراد شخص من القيادات أن ينبش فى الملفات ليتقصى عن حكاية هذا الكرسى، وعثر على الجواب بعد وقت طويل من البحث، إذ اتضح أنه منذ قرابة ثلاثين عاما أمر ضابط حارسا أن يقف إلى جوار الكرسى الذى كان قد دُهِنَ لتوه كى لا يجلس عليه أحد، واستمر الأمر ساريا من جيل إلى جيل، دون أن يشك أحد فى جدوى ما يفعل أو يصدر أمرا مناقضا!
لم يُجهد عم فاروق نفسه لفهم المقصود، فمنذ أن عمل فى الجراج بعد سن المعاش بقليل وهو يفضل النوم فى كرسيه بسلام خاصة فى ساعات المساء المتأخرة. لا يفضل تجاذب أطراف الحديث مع سائقى السيارات حتى وإن سمح لنفسه ببعض الملاحظات حول الوضع الاقتصادى. العربات التى تمر عليه صارت قديمة نوعا ما، بها إصابات عديدة ولا تتم صيانتها، فكل شىء غلا ثمنه... اختفت تقريبا الموديلات الجديدة، وتناقص عدد من يلجأون للجراج بعدما ارتفع سعر تذكرة الدخول بشكل مبالغ فيه. يأخذ الأجرة ويعطيهم «الفكة» بكل تأدب، ويقول «يومك جميل» أو «ليلتك حلوة»، حسب ساعة الوصول.
• • •
يترك كرسيه للحظات ثم يعود إليه مترنحا، فقد أيقظه صوت بوق السيارة. يمسك عدسته المكبرة ليتفحص الجريدة تحت الإنارة الخافتة، وفى مرات أخرى يستغرق فى قراءة إحدى روايات أجاثا كريستى البوليسية التى اشتراها من سور الأزبكية، خاصة تلك التى تدور أحداثها فى منطقتنا: «مكيدة فى بغداد»، «جريمة فى قطار الشرق السعيد»، «موت على النيل»، كما لو أن الحضارات القديمة تخبئ لنا سلسلة من الجرائم والسرقات. فضول الكاتبة الراحلة كان يدفعها إلى ملاحقة تلك الآثار الممحوة، أما هو فمصاب بهوس الهروب من الواقع، سواء بقراءة هذه النوعية من الكتب أو بالنوم والأحلام، فقد تعب كثيرا فى حياته. حظه دوما قليل، فحتى الأحلام لا تسير أحيانا على النحو الذى يريد.. ذات مساء، حلم أنه اشترى سيارة رولز رويس حمراء ودخل بها الجنة، ثم اكتشف أنه ذهب إلى جهنم على وجه الخطأ، وكانت الأبواب كلها موصدة فى وجهه.
يقع كرسيه فى مهب الرياح الربيعية المتربة، بعدما انزاح صقيع الشتاء. الهواء يذهب ولا يرجع. وفى ظل اضطراب الفصول الأربعة وانتشار الأتربة طوال السنة، يفكر أننا نحتاج ربما إلى استبدال الكوكب! يتحدث إلى نفسه بصوت خافت، لكنه مسموع. اعتاد الناس فى الجراج على رؤيته وهو يكلم نفسه ويشيح بيده، كما لو أن هذا الكرسى يدعوه للتأمل والبوح. بالطبع ليس مجنونا، بل عقله يعمل بفاعلية كبيرة، والتعبير عن أفكاره بصوت مرتفع يسمح بترتيبها فى رأسه، كما يتيح له تفريغ شحنة العنف الداخلى والحنق. تنقذه تصفية الحسابات الشفهية تلك، فبدلا من أن يكبت غضبه أو أن يحاول قتل أحدهم، يفضفض بكل ما يريد مع نفسه ويهدأ ويروح فى سبات عميق حتى توقظه إحدى السيارات.
يقوم من النوم تائها، يتجول بخطوات بطيئة، ويمضى مبتعدا كعفريت الليل فى وسط الظلام، ثم يجلس مكانه... روحه الطيبة تتلبس الكرسى ليلا، وتتركه فارغا فى النهار.
التعليقات