كان عمر بن الخطاب يكفى نفسه وأهله، ولا حاجة به لشىء من متاع الدنيا. كما كان رضى الله عنه قويا مستطيعا حماية نفسه وأهله فلم ينله أى أذى فى مكة. فلماذا هاجر، وكيف؟
ــ1ــ
ما إن أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم إذنه بالهجرة لمن يريد، إلا وبدأت رحلات الهجرة فرادى ومثنى وجماعة، وكانت تلك الرحلات تخرج من مكة سرا خوفا من ضغوط المشركين وزعماء مكة.
وقد بدأت طلائع الهجرة مع بداية «المحرم» حيث أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقية الإقامة فى المدينة مع أهلها الذين حضروا إلى «منى» فى موسم الحج فى ذى الحجة، وقد عرفت تلك الاتفافية النبوية تاريخيا باسم «بيعة العقبة الثانية»، وقد سبقها وعد بالتوافق ثم عقده مع شباب يثرب فى «بيعة العقبة الأولى».
وفى الثانية حضر شيوخ من الأوس والخزرج واستمعوا لرسول الله، وأعلنوا قبولهم للإسلام، كما أعلنوا ترحيبهم باستضافة النبى والمهاجرين فى بلادهم.
ــ2ــ
توالت وفود الهجرة منذ بداية المحرم حتى كان شهر صفر فشهد منتدى قريش فى المحرم مشهدا لم يره من قبل، هذا عمر بن الخطاب يمسك سيفه ويعلى صوته قائلا: يا معشر قريش تعلمون أنى قد أسلمت وتابعت محمد صلى الله عليه وسلم، وها أنا ذا أهاجر لألحق بإخوانى المهاجرين وقد اصطحبت معى فلان و... إلخ، وذكر عددا من الرجال ومعهم بعض نسائهم وأبنائهم.. فمن أراد أن تثكله أمه، وترمل زوجته، وييتم ولده، فليخرج للقائى خارج الحرم أو ليعترض طريقى و طريق من معى..
ــ3ــ
ووصل عمر بن الخطاب ومن معه إلى يثرب وأخذ الناس هناك يسألونه أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: هو على الأثر، أى إن وقت هجرته قد حان وسيحل بأرض يثرب خلال أيام لن تطول.
ــ4ــ
لماذا يهاجر عمر ذلك الغنى القوى؟
هاجر عمر بن الخطاب لأنه يعلم تمام العلم، أن مجرد الحياة الآمنة ليس هدفا وغاية يرضى بها العاقل، بل إن الحياة الآمنة وسيلة تمكن الإنسان من تحقيق غايته وإنجاز فريضته الشرعية وتحقيق ذاته.
ــ5ــ
فكيف يسعد عمر بكفايته المالية، وهو يوقن أن غيره من الناس تحت خط الفقر والضعف، وأنهم بحاجة إلى دعم يشد أزرهم؟
وكيف يصدق عمر أنه مسلم مؤمن إذا لم يسخر قوته فى نفع وخدمة الآخرين؟!! بل إن عمر يدرك تمام الإدراك أن عشرات من المستضعفين قد سبقوه إلى يثرب، وأنهم بحاجة إلى مشير يشير عليهم، ومساعد يأخذ بأيديهم، فكيف يتأخر؟ بل كيف ينام أو يرتاح؟
ــ6ــ
وهاجر عمر رضى الله عنه من مكة إلى يثرب وأعلم الدنيا وعلمها درسا لا يغيب عن العقلاء.. علم الدنيا أن الكفاية والأمن ليست غاية الإنسان، بل إن الكفاية والأمن مجرد وسيلة تساعد الإنسان على إنجاز دوره فى الحياة..
فرضى الله عنك يا عمر حكيما ومعلما وقائدا لا يشق له غبار..