بَـقَاء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بَـقَاء

نشر فى : الجمعة 5 يوليه 2019 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 5 يوليه 2019 - 9:35 م

الردُّ الذي اعتاد كثيرون الدفعَ به عند السؤالِ عن الأحوال: ”على قيدِ الحياة“، والمَعنى أن الحالَ ليست كما يُراد لها، مع ذلك لا ينفكُّ الواحد يغالبُ ضيقَها، ويصارع نوازِلَها وأحزانَها، والأهم أنه لا يزال قادرًا على استقبالِ السؤال وإجابتِه؛ لا يزال باقيًا في قلبِ الحياة، صامدًا لمُعتركِها.

***
في بعض الأحيان؛ يكون البقاءُ على قيدِ الحياة أقصى ما يبلغُ المرءُ مِن مُنى، وغايةَ ما يبذل مِن جهود، فأن يظلَّ حيًا رغم تداعي أسبابِ الحياة؛ أمر يستحقُّ ولا شكَّ الاحتفاءَ، مهمًا كان السياق، ومهمًا تدنَّت مِن حوله المُعطياتُ وتعاظمت الكُروب؛ ففي مَواقف الشدّة لا يلزم تحقيقُ انتصاراتٍ مُدَوِّية، إنما يُعدُّ البقاءَ وحدَه؛ بكُلِّ ما أثخن الصدرَ مِن جراح، وما أوجع الروحَ مِن نُدوب؛ نصرًا عظيمًا.

***
قِيل قديمًا إن البقاءَ للأقوى، ثم تطوَّرت الفكرةُ مع الوقت وتبدَّلت العبارةُ؛ إذ تبيَّن أن البقاءَ للأصلح، والاستمرارَ للأطول نفسًا، والأعظم حيلةً وصبرًا، والأعتى قُدرة على التحمُّل. في ذروةِ القهر وفي قاعِ البؤس أناسٌ؛ يكافحون أجواءَ القنوط واليأس، لا يستسلمون لواقعٍ مُزر، ولا يؤجلون فعلًا لحين اعتدالِ الحالِ أو زوالِ الغُمَّة. هؤلاء؛ بقاؤُهم عناد، ووجودهم فعلٌ مِن أفعال المُقاوَمة.

***

يقول الشاعر: وما عَجَبي مَوت المُحبّين في الهوى ... ولكنَّ بقاءَ العاشقين عَجيبُ، والمعنى أن التلظّي بسعير الهَوى؛ يفُتُّ العَضَدَ ويُشقي القلوبَ؛ يُصبح الوصال إذًا أمرًا مُضنيًا، ويغدو البقاءُ أشدَّ صعوبة مِن الرحيل، بل ومدعاةً للدهشة والتَعَجُّب.

***

البقاءُ لله، والبقيَّةُ في حياتك؛ كلماتٌ تخرج مِن أفواهنا مَصحوبةً بالحزن بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى مُجرَّدة مِن المَشاعر، مُحايدة الوجدان. الأولى تلقى قبولًا بين فئةٍ مِن الناس، إذ يحرص عليها مَن يتحرون دقَّة المَعنى وينتقون الألفاظَ؛ لكنها تبدو أقلَّ استعمالًا وأثقل تدولًا على الألسنة، أما الثانية فأكثر شعبيةً وأوسع استخدامًا؛ لكنها بدورها تستفزُّ نفرًا مِن السامعين، وتمضي إذا قِيلت مَشفوعة بالاستياء؛ يُعاب عليها المضمون وتُوصَف بالتجاوُز والافتئات؛ إذ هي أمنيةٌ بالحصول على "بقية" تنتقل مِن ميت إلى حيّ؛ رصيدٌ مِن الأحلامِ والأفعال، يُضاف إلى حِساب مَن يتلقَّى العزاء.

***

البَقَاءُ في مَعاجم اللغة العربية هو نقيضُ الفَنَاء، أما الباقي؛ فهو أبديُّ الوجود. استَبقَيت مِن الشيء أَي تركت بعضه، ويُقال استبقى الرجلُ ضيفَه؛ إذا طَلَبَ مِنه أن يمكُث لوقت إضافي، أما أَبْقيْتُ ما بيني وبينهم؛ فالمعنى أنني لم أُبالغ في إفساده، وتركت خيطًا ممدودًا لعلَّ في الأمر رَجعة. تذكر المعاجمُ اللغوية القديمة؛ أن العربَ تطلب ”البَقِيَّة“ مِن العدوّ إذا غلب وأحرز نصرًا؛ والمَقصود ألا تكون الهزيمة دافعًا للانتقام وحافزًا للإفناء؛ فاستبقاء المدحورين أملٌ، ووعدٌ بقيام، وإذ قيل البقية تأتي؛ فتعبير شائع، يعكس ثقةً ظاهرةً، وبعضًا من يقين؛ والمقصود أن الحاضرَ لا يمثل كل شيء، وأن أشياءً أخرى قادمةٌ في الطريق إذ الجُعبة ملأى بالمَزيد.

***

ثمَّة كائنات أدنى مِن البشر درجةً؛ لكنها تملِك قُدرةً مُبهرةً على البَقاء؛ تُتيح لها التغلُّب على تقلُّبات الطبيعة وقسوةِ الظروف التي لا تلائم مَعيشتها. تتحوَّر وتكمُن ويقلُّ نشاطُها وتستهلك مِن الطاقة ما يحفظ فقط وجودها، وحين تغدو الظروف مُواتية مرة أخرى، تستأنف حياتَها العادية وتستعيد حيويتها. نشرت وسائلُ الإعلام العالمية تقارير وتحقيقات؛ عن الكائنات الدقيقة، النائمة بين ثلوجٍ في طريقها للذوبان. كائناتٌ لم تفنى، ولم نَقضِ عليها كما تَوَهَّمنا؛ إنما خدعتنا وتوارت إلى حين. بقاؤها لأزمنة مُتعاقبة يشبه المُعجزة، وغرورنا بما تحقَّق مِن تقدُّم عِلميّ؛ ساعدها على التحايلِ والبقاء، ثم إذا بنا نواجه اليوم خطر عودتها لنشاط جَمّ، ولدورة حياةٍ مُكتمِلة الأركان؛ تُصيبُ خلالها الملايين، وتُفني أعدادًا قد لا يمكن إحصاؤها مِن البشر.

***

حكاياتُ الباقين على قَيدِ الحياة في أعقاب كارثةٍ أو نَكبة، بمَنزلة مُستَودَع مُتجدِّد؛ تنهلُ مِنه الدراما مادتها. أفلامٌ عدة أُنتِجَت عن سقوط طائرة، وفوران بركان، وموجات عملاقة تُغرِق قرى وتمحو شُطآن. هناك أيضًا مَعينُ قصصٍ لا ينضُب، يُغذيه آشخاصٌ قاوموا مِن أجل البَقاء؛ تخطّوا مُحاولاتِ الإبادة المُتعمَّدة، وخُططَ المَحو مِن خرائط التاريخ والجغرافيا. السُّكان الأصليون في أمريكا الشمالية، قبائل دارفور في السودان، أهل فلسطين بين حدودِها ما قبل الوعدِ والاحتلال، وجماعات مُوزَّعة ما بين الشرق والغرب؛ يُؤمِن أفرادُها بطيفٍ واسعٍ مِن الأفكار والمُعتقدات. ثمَّة مَن تعرَّضوا لطلقات الرصاص، ومَن واجهوا المليشيات المُدرَّعة وراكبي الإبل؛ مُضرمي الحرائق، حاملي المدافع والأسواط، وثمَّة مَن تصدُّوا بحجارتِهم وأجسادِهم للقنابل والطائرات، ومَن تمَّ إلقاؤُهم في المُعتقَلات، وتركوا ليذووا تباعًا، ويرحلوا في هدوء. أولئك وهؤلاء عانوا قمَّة العنف، وذاقوا ويلات الاستعباد، لكنهم تجلَّدوا واحتملوا وبقوا؛ وصار بقاؤهم درسًا لا يصلح معه مَحوٌ ولا إخفاء.

***

تقول الأسطورةُ إن العنقاءَ تنهض مِن رمادها، وفي نهوضها رمزٌ للخلود والبَقاء. ثمَّة شعوبٌ تنفُض عنها أتربةَ ما انهار، وتصلُب ظهرَها، وتشد عودَها وتَجبُر ما انكسر، وتُزيح ما جَثَم على صدرها مِن أحجار، ثم إذا بها تنهض مِن جديد مُعلنةً بقاؤها؛ تشقُّ الدَربَ وتمضي، غير آسفةٍ على ما انقضى.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات