تحكيم أبيى وتسوية النزاعات العربية - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحكيم أبيى وتسوية النزاعات العربية

نشر فى : الأربعاء 5 أغسطس 2009 - 11:29 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 أغسطس 2009 - 11:29 م
فى الثانى والعشرين من يوليو الماضى، أصدرت المحكمة الدائمة للتحكيم فى لاهاى، حكمها فى النزاع بين الفصيلين الحاكمين فى السودان، والذى قضى بإعادة ترسيم حدود أبيى المتنازع عليها بين شمال السودان وجنوبه، ورغم أن الحكم قلص مساحة أبيى لصالح الشمال، ومنح حقول النفط الأساسية له، إلا أن الجنوبيين كانوا راضين بدورهم عن الحكم كونهم سيتحكمون على الأرجح بالإقليم من خلال قبيلة الدينكا التى ستختار فى الغالب الانضمام إلى الجنوب فى الاستفتاء المقرر فى2011. من ناحية أخرى، توالت ردود الفعل الإيجابية عربيا ودوليا للحكم، وبدا أنه نزل بردا وسلاما على كل الأطراف المعنية.

تأملت فى مغزى الحكم ودلالته، وتساءلت بينى وبين نفسى: أيعقل أن تكون أنت الوحيد غير الراضى عن الحكم؟ وسرعان ما طمأنت نفسى بأننى كغيرى قد استرحت له كونه يساعد على تسوية نزاع مهم بين شمال السودان وجنوبه، فيما كان يمكن للحكم لو صدر على نحو غير متوازن أن يكون وقودا لنار جديدة لا شك أن السودان فى غنى عنها، لكن مشكلتى أننى نظرت للحكم من منظور أوسع نطاقا من السودان وما يجرى فيه، وهو المنظور العربى، فقد عرف النظام العربى النزاعات بين أطرافه وداخلها منذ نشأته الأولى، لكنه كان يمسك بصفة عامة بهذه النزاعات بين يديه، فلا تخرج عنه إلا مضطرا. كان النظام يخفق حينا فى تسويتها، ويتوصل حينا آخر إلى تسويات شكلية سرعان ما تنهار، وينجح نجاحا ظاهرا حينا ثالثا فى وأد منازعات كان يمكن إن تفجرت أن تكون لها تداعياتها الخطيرة على تماسكه، لكن المبدأ كان موجودا دائما، والمسعى كان حاضرا. بل إن النظام قد نجح فى منع تدويل بعض منازعاته أو وقف هذا التدويل عندما بات الخطر من هذا التدويل واضحا، كما حدث فى النزاع الأهلى فى لبنان فى عام1958.

ولنسوق عددا من الأمثلة لمحاولة التدليل على صحة المقولة السابقة، فهل ننسى أن تماسك النظام العربى وتمسكه بقيمه الأساسية قد أديا إلى نجاح كامل فى تسوية أزمة المطالبة العراقية الأولى بالكويت فى1961؟

فى ذلك الوقت أخفق مجلس الأمن إخفاقا ذريعا فى التوصل إلى قرار بشأن الأزمة، بسبب حق الاعتراض الممنوح للدول الخمس دائمة العضوية فى المجلس، فكان الفيتو البريطانى بالمرصاد لأى مشروع قرار لصالح العراق، والفيتو السوفيتى يقوم بالدور نفسه بالنسبة لأى مشروع قرار لصالح الكويت، وبالمقابل فإن مجلس الجامعة العربية تمكن من التوصل إلى قرارات تنص صراحة على حق الكويت فى الاستقلال، وفى أن تقرر لاحقا إذا كانت تريد الانضمام لأى دولة عربية أخرى، وتطالب أمير الكويت بسحب القوة البريطانية التى كان منوطا بها حماية الكويت ضد أى تهديد خارجى، وتشكل لأول مرة فى تاريخ الجامعة العربية قوات حفظ سلام تفصل بين الطرفين المتنازعين، وهكذا حلت الأزمة عربيا دون أن تطلق رصاصة واحدة، أو تسيل نقطة دم عربية واحدة، والمقارنة أوضح من أن تذكر بما حدث فى أعقاب الغزو العراقى للكويت فى 1990.

والأمثلة غير ذلك عديدة، ففى الصراع الذى تفجر فى شمال اليمن بعد نشوب الثورة فيه فى 1962، والذى كانت له أبعاد عربية ودولية واضحة، جرت عدة محاولات لتسويته داخل البيت العربى تعثرت كثيرا، غير أنها انتهت بالنجاح. كانت للصراع أبعاده العربية الواضحة فى انحياز مصر للجمهوريين ودعمهم بقوات عسكرية، وانحياز السعودية للملكيين ودعمهم بالمال والسلاح، فضلا عن أبعاد الصراع الدولية، حيث تحول الخوف من أن يكون الوجود العسكرى المصرى فى اليمن نقطة وثوب جديدة لعبدالناصر فى واحدة من أشد المناطق حيوية للمصالح الغربية إلى سعى مخطط لاستنزافه فى اليمن. ومع ذلك فإن محاولات تسوية الصراع فى إطار عربى جرت فى أعقاب قمة القاهرة فى 1964، ولم يصبها النجاح، بالنظر إلى تعقد الأبعاد المحلية للصراع، ثم حاولت مصر والسعودية التوصل من خلال اتفاقية جدة 1965 إلى تسوية، لكن التنفيذ تعثر للأسباب ذاتها، وعندما وقعت هزيمة1967 انعقدت إرادة الدولتين مرة أخرى على تسوية الصراع نهائيا، وتم ذلك بالفعل، ومع مطلع السبعينيات كانت الثورة اليمنية قد رسخت أقدامها.

وثمة مثال ثالث على التسوية العربية للنزاعات الخطيرة داخل النظام العربى، وهو الدور الذى قامت به مصر فى سبتمبر 1970 لوقف الصدام المسلح بين السلطة الأردنية والمقاومة الفلسطينية، والأمثلة غير ذلك عديدة.

وإذا نظرنا إلى الخريطة الراهنة للصراعات العربية-العربية فسوف نكتشف على الفور ملمحين خطيرين، أولهما أن ملف تسوية هذه الصراعات قد خرج من الأيدى العربية، والمثال الواضح هنا هو الخلاف المغربى ــ الجزائرى حول مستقبل الصحراء الذى ترك كلية بيد الأمم المتحدة دون أن تجرؤ مؤسسة عربية واحدة بما فى ذلك مؤسسة القمة على معالجته، ونذكر أيضا أن النزاع القطرى-البحرينى لم يحل إلا عبر محكمة العدل الدولية، علما بأن إحدى هيئات مجلس التعاون لدول الخليج العربية هى هيئة تسوية المنازعات التى تجمع بين الطابعين القانونى والسياسى، وكانت تعد على هذا النحو إطارا نموذجيا لمعالجة النزاع، حيث إنها تصدر توصيات لا يمكن قبولها إلا بالإرادة الحرة لطرفى النزاع.

أما الملمح الثانى الخطير فيتمثل فى أن النزاعات الأهلية العربية ــ أى داخل كل دولة على حدة- قد خرجت بدورها من إطار النظام العربى، وإلا فأين هو الدور العربى الفاعل فى تسوية النزاع الأهلى فى السودان أو الصومال؟ علما بأن الحكومة الصومالية توسلت غير مرة للقمم العربية طلبا لتدخل عربى يعيد للصومال استقراره ولحمة دولته، وأين هو الدور العربى فى رأب الصدع بين سنة العراق وشيعته فى أعقاب احتلاله فى 2003؟ فى الوقت الذى حاولت فيه الإدارة الأمريكية ــ بغض النظر عن نواياها ــ القيام بدور فى هذا الصدد، بعد أن استفحلت التحديات التى تواجهها فى العراق، كذلك يقال كثيرا إن التقدم كان مستحيلا فى حل الأزمة اللبنانية دون توافق «إقليمى»، وهو تعبير مهذب عن النفوذ الإيرانى على بعض أطراف الأزمة داخل لبنان، ولم تفلح المحاولات العربية لمعالجة الاحتقان السياسى فى موريتانيا فى أعقاب الانقلاب العسكرى الذى أطاح فى 2008 بالرئيس المنتخب، فيما نجح المسعى الذى تزعمته السنغال فى هذا الصدد، وأخيرا وليس آخرا، فإن بعض التقارير قد ذكر أن تركيا تطلب «السماح» من مصر بأن تتدخل فى حل الأزمة بين فتح وحماس.

الصورة إذن تبدو مقلقة للغاية، ومنذرة بالمزيد من تدهور أوضاع النظام العربى، وواقع الأمر أن العوامل الخارجية لا يمكن لها وحدها أن تفسر هذا الوضع الراهن، بل إنها ليست المتغير الرئيسى فيه، ذلك أن الثقة باتت مفقودة إلى حد بعيد فى العلاقات بين الدول العربية وداخلها، وليس بغريب أن المقترح الوحيد لتطوير الجامعة العربية الذى لم يحظ بمساندة الدول الأعضاء هو إنشاء محكمة العدل العربية التى كان من شأنها أن تلعب دورا بالغ الإيجابية فى تسوية النزاعات العربية، طالما أن أطرافها ترتضى أدوارا خارجية فى أخص شئونها الداخلية، لذلك فليس من المبالغة أن يتوقع المرء مزيدا من الاختراقات الخارجية للنظام العربى فى المستقبل القريب، ليس فقط فيما يتعلق بأمنه، وإنما أيضا فى عملية تسوية نزاعاته البينية بما فى ذلك الأهلية منها.

 

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية