جددوا الفضيحة وستروا القاتل - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 8:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جددوا الفضيحة وستروا القاتل

نشر فى : الثلاثاء 5 أكتوبر 2010 - 10:42 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 5 أكتوبر 2010 - 10:42 ص

 هما فضيحتان وليست واحدة، الأولى أن السلطة الفلسطينية تواطأت مجددا على تمكين إسرائيل من الإفلات من العقاب على ما ارتكبته من جرائم فى عدوانها على غزة. الثانية أن الإعلام العربى تستر على الجريمة، وأحاطها بجدار من الصمت والتجاهل.

(1)


وقعت الواقعة فى الأسبوع الماضى أثناء انشغال الجميع بالمفاوضات المباشرة واحباطاتها. إذ نقلت وكالة الأنباء الفلسطينية من جنيف خبرا مفاده ان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تبنى يوم الأربعاء 29/9 قرارا طالب الأمين العام والمفوض السامى لحقوق الإنسان بالاستمرار فى متابعة تنفيذ توصيات تقرير القاضى الدولى ريتشارد جولدستون حول ما جرى أثناء العدوان الإسرائيلى على غزة، على أن يعرض الأمر على المجلس بعد خمسة أشهر، فى مارس من عام 2011.

هكذا تمت صياغة خبر الفضيحة التى أعنيها. وهى صياغة مسكونة بالتدليس والمراوغة، بمعنى أنها أعطت انطباعا بأن أمرا عاديا حدث، محوره مطالبة الأمين العام لمجلس حقوق الإنسان بمتابعة تنفيذ توصيات تقرير جولدستون وتأجيل إصدار قرار بشأنها إلى إشعار لاحق، وإمعانا فى التدليس تحدث القرار عن ترحيب المجلس بتقرير اللجنة الدولية القانونية المستقلة حول نتائج التحقيقات التى قامت بها الأطراف. وأشاد بتعاون السلطة الوطنية مع تلك اللجنة، فى حين أدان عدم تعاون إسرائيل وإعاقة جهودها، وحث المجلس فى قراره السلطة الوطنية على استكمال تحقيقاتها بخصوص ادعاءات لجنة تقصى الحقائق المتعلقة بقطاع غزة، كما حث إسرائيل على ان تقوم بما تمليه عليه واجباتها لإتمام التحقيقات فيما يخصها من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولى التى أوردها تقرير جولدستون.

لا أستطيع أن أفترض حسن النية فى صياغة الخبر على ذلك النحو. خصوصا إذا لاحظنا أن تلك الصياغة صدرت عن وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) الخاضعة للسلطة الفلسطينية، التى وقفت وراء القرار. لذلك لا أتردد فى القول بأنها نموذج للتستر على الفضيحة التى ارتكبت، واستهدفت تمكين إسرائيل من الافلات من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، لمحاسبتها على الجرائم التى ارتكبتها أثناء عدوانها على غزة، وهو ذات الموقف المدهش الذى تبنته السلطة الفلسطينية منذ اللحظات الأولى لعرض تقرير جولدستون على مجلس حقوق الإنسان فى شهر أكتوبر من العام الماضى (2009). ولذلك قصة مخزية ينبغى أن تروى.

(2)


فى البدء كانت فضيحة إسرائيل التى كشف عنها تقرير لجنة تقصى الحقائق التى شكلت بتفويض من الأمم المتحدة برئاسة القاضى اليهودى الدولى ريتشارد جولدستون (من جنوب أفريقيا). إذ أدان التقرير إسرائيل فى عدوانها الذى استمر 22 يوما على غزة (آخر عام 2008 وبدايات عام 2009)، ومارست خلاله انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولى، كان أبرزها استخدام الفوسفور الأبيض الذى يلتهم الجلد البشرى فور تعرضه للأكسجين. وهو العدوان الذى أسفر عن قتل 1400 فلسطينى وإصابة (5000 آخرين). فى ذات الوقت فإن التقرير الذى وقع فى 575 صفحة سجل عدة انتهاكات بحق السلطة المختصة فى القطاع. وأوصى بأن تحول نتائجه إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا فشلت إسرائيل وحماس فى إجراء تحقيقات ذات مصداقية فيما نسب إلى كل منهما. وقد رفضت إسرائيل التقرير واعتبرته منحازا، كما رفضت التعاون مع لجنة تقصى الحقائق الدولية.

هذا التقرير كان يفترض أن يعرض على مجلس حقوق الإنسان فى شهر أكتوبر من العام الماضى، تمهيدا لاتخاذ إجراءات المضى فى الالتزام بتوصياته. ولكن مفاجأة لم تخطر على بال أحد وقعت وقتذاك فى جنيف، حين تبين أن السيد أبومازن رئيس السلطة الفلسطينية طلب من مندوب منظمة التحرير لدى مجلس حقوق الإنسان أن يدفع بتأجيل مناقشة التقرير إلى الدورة التالية للمجلس فى شهر مارس 2010 ولم يكن هناك من تفسير لذلك المطلب سوى أنه يهدف إلى رفع الحرج عن إسرائيل وإخراجها من المأزق الذى وقعت فيه، وهو موقف صدم الجميع وأثار غضبا عارما فى الأوساط الفلسطينية والعربية على الأقل. الأمر الذى دفع أبومازن إلى التراجع عن قراره، فسحب طلب التأجيل وعرض التقرير على مجلس حقوق الإنسان (الذى يتمتع فيه العرب والمسلمون ودول العالم الثالث بأغلبية كبيرة). وكانت النتيجة أن المجلس تبنى تقرير جولدستون وتوصياته وأحال الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نوفمبر 2009، التى أيدت بدورها التقرير (بالتصويت)، وأعطت مهلة لكل من إسرائيل والفلسطينيين لإجراء تحقيقات عادلة فى شأن ما نسب إلى كل منهما، ترقى لمعايير العدالة الدولية.

شكلت الأمم المتحدة لجنة من الخبراء المستقلين لرصد وتقييم التحقيقات الداخلية التى قامت بها إسرائيل والجانب الفلسطينى، وقبل الاجتماع الأخير فى جنيف قدمت اللجنة تقريرها إلى مجلس حقوق الإنسان، وذكرت على لسان رئيسها البروفيسور كريستيان توموشات أن التحقيقات التى تجريها إسرائيل تفتقد إلى الشفافية والنزاهة، مشيرا إلى أن الحكومة الإسرائيلية فشلت فى التحقيق مع من خططوا وأشرفوا على الهجوم. ذكرت اللجنة أيضا أن الجانب الفلسطينى فشل بدوره فى إجراء التحقيقات الداخلية الخاصة بها. وكان تقرير جولدستون قد أوصى بإحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا فشل الطرفان فى إجراء التحقيقات اللازمة فيما نسب إلى كل منهما.

كان مقررا أن ينتهى الطرفان من تحقيقاتهما فى شهر مارس من العام الحالى. ولما لم يحدث ذلك مدت الأمم المتحدة المهلة إلى شهر يوليو، ولما لم يقع أى تقدم فى هذا الجانب، كان على مجلس حقوق الإنسان أن يحسم الأمر المعلق. علما بأن الولايات المتحدة وإسرائيل ظلتا تطالبان طول الوقت بإغلاق الملف ودفن تقرير جولدستون بشكل نهائى اكتفاء بالتحقيقات التى أجريت، بزعم أنها لم تنته إلى نتائج ملموسة. ولذلك اتجهت الأنظار إلى الاجتماع الأخير الذى عقد فى جنيف يوم 29 سبتمبر الماضى، حيث توقع الناشطون فى مجال حقوق الإنسان ان تأخذ الإجراءات مسارها الطبيعى، بحيث يقرر المجلس إحالة الملف إلى مجلس الأمن، لكى يوجهه بعد ذلك إلى المحكمة الجنائية الدولية. ولكن ما حدث لم يكن فى حسبان أحد.

(3)


كانت صحيفة «الحياة» اللندنية الوحيدة التى سربت الخبر، إذ نشرت صبيحة يوم الأربعاء 29/9 خبرا ذكرت فيه أن «مصادر حقوقية فلسطينية كشفت النقاب عن فضيحة جديدة للسلطة الفلسطينية تتعلق بطلبها تأجيل إحالة تقرير جولدستون إلى الأمم المتحدة. مجددة بذلك موقفها فى شهر أكتوبر الماضى الذى تبنى الدعوة إلى إرجاء النظر فى التقرير. وهو ما أثار انتقادات حادة. وكانت له نتائجه الخطيرة على الوضع الفلسطينى برمته. وكشفت المصادر عن ان البعثة الفلسطينية لدى مجلس حقوق الإنسان فى جنيف تقدمت بمشروع قرار إلى المجلس يسهل إفلات إسرائيل من العقوبات التى يمكن ان تواجهها جراء الحرب العدوانية على قطاع غزة. الأمر الذى يعد فضيحة كبرى جديدة، وحذرت المصادر من خطورة التصويت لصالح القرار، الذى من شأنه إجهاض تقرير القاضى الجنوب أفريقى ريتشارد جولدستون، الذى أشار إلى ارتكاب إسرائيل جرائم حرب أثناء عدوانها على القطاع».

فى الخبر المنشور عرضت الحياة خلاصة لمشروع القرار الذى تقدم به ممثل منظمة التحرير قبل أيام قليلة إلى مجلس حقوق الإنسان، وكانت أخطر فقراته مادة نصت على أن «يطلب المجلس من المفوض السامى لحقوق الإنسان أن يقدم تقريرا عن تطبيق القرار إلى مجلس حقوق الإنسان فى جلسته السادسة عشرة فى شهر مارس عام 2011».

فى التعليق على هذه الخطوة نقلت «الحياة» عن المصادر الحقوقية الفلسطينية قولها إنه طالما أن إسرائيل رفضت بإصرار إجراء تحقيقات مستقلة ونزيهة فى العدوان على القطاع فهذا يلقى الكرة إلى ملعب المجتمع الدولى لإجراء مثل هذا التحقيق، وليس التسويف والمماطلة والبحث عن مخارج لها من قبل السلطة الفلسطينية».

فى مساء اليوم نفسه فى الساعة السادسة والنصف مساء بثت وكالة الأنباء الفلسطينية من مقرها فى رام الله الخبر بعد صياغته بالصورة الملتبسة التى أشرت إليها، حيث استهلته بالجملة التالية: تبنى مجلس حقوق الإنسان قرارا مهما قدمته المجموعة العربية والمجموعة الإسلامية، يطالب الأمين العام والمفوض السامى لحقوق الإنسان بالاستمرار فى متابعة تنفيذ التوصيات الواردة فى تقرير جولدستون. أخفى الخبر أن القرار قدم بإيعاز من ممثل السلطة فى المجلس، ولم يشر إلى أن موضوعه الأساسى هو الحيلولة دون إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية مما قد يعرض إسرائيل للعقاب.

المدهش أن الخبر لم يحدث أى صدى فى العالم العربى، على الرغم من الصدى العنيف الذى حدث فى المرة السابقة. إذ باستثناء بيان أصدره مركز القاهرة لحقوق الإنسان مع منظمات حقوقية فلسطينية أخرى، ندد بالتواطؤ العربى على دفن تقرير جولدستون، فإن عملية التعتيم على القرار لم تتح لأحد ان يتابع ما جرى فى جنيف، وبالتالى فقد تم تمرير ودفن القرار فى هدوء ودون أن يشعر أحد.

(4)


لم ينتبه كثيرون إلى الفضيحة التى حدثت فى جنيف ليس فقط جراء الصياغة الملتبسة التى قدمته بها الوكالة الفلسطينية، ولكن أيضا لأن القرار قدم وحسم وسط أجواء ضجيج الحديث عن أزمة المستوطنات التى عوقت المفاوضات المباشرة، وعن تداعيات أزمة أسطول الحرية التى قتل الإسرائيليون فيها تسعة أتراك، وأخبار تحرك «قافلة شريان الحياة»، التى انطلقت من إنجلترا فى طريقها إلى غزة. ولابد أن يلفت نظرنا فى هذا السياق أنه فى الوقت نفسه الذى طلبت فيه السلطة الفلسطينية تأجيل إحراج إسرائيل وعقابها أطلقت أخبارًا معطرة عن تجدد جهود المصالحة بين فتح وحماس، ولا أعرف ما إذا كان ذلك قصد به صرف الانتباه عما حدث فى جنيف أم أن التزامن مجرد مصادفة.

من المفارقات أنه فى الوقت الذى قدم فيه أبومازن هذه الهدية لإسرائيل، فإن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو تعامل معه بمنتهى الصلافة والاستعلاء، حين رفض ان يتراجع خطوة واحدة، ولو على سبيل التمثيل، عن موقفه بشأن استمرار بناء المستوطنات.

حين وقعت الفضيحة الأولى فى شهر أكتوبر من العام الماضى، كتب الدكتور عزمى بشارة المثقف والسياسى الفلسطينى البارز مقالين نشرا فى4 و5/٩ تحت العنوان التالى «العار يمشى عاريا» تحدث فيهما عن التهديدات السياسية والاقتصادية التى وجهها نتنياهو لقيادة السلطة، وتهديدات وزير خارجيته ليبرمان بالكشف عن تورط السلطة فى دعم الحرب الإسرائيلية على غزة، مما أدى إلى تراجع السطة علنا عن تأييد القرار. وذهب إلى ان موقف السلطة فى حقيقته هو محاولة لإفشال القرار، وفى هذه الحالة، فإن صاحب الشأن حين يتراجع عن القضية، فإنه يصبح بإمكان الآخرين ان يتحرروا من العبء، لينتقل صاحب الشأن بعد ذلك إلى الاختباء وراء تحرر الآخرين من العبء.

إن الصمت العربى على ما جرى يبعث على الحيرة، ذلك ان أبومازن وجماعته إذا كانوا قد تستروا تحت التهديد على الجريمة الإسرائيلية تحت التهديد وساعدوا على ان تفلت من العقاب، فإن ذلك يثير تساؤلنا حول ما إذا كان العالم العربى قد تلقى ذات التهديد أم عواصمه الكبرى اختارت الصمت لكى تتحلل من عبء القضية وتتخلص من الصداع الذى تسببه لها. إن السلطة والأنظمة التى تقف معها أصبحت تقف علنا فى صف تصفية القضية وإغلاق ملفها. وغدت الأزمة وحدها مسئولة عن مواجهة التحدى وإدارة الصراع.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.