هل تستطيع الولايات المتحدة مواجهة تحديات الكوكبة؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل تستطيع الولايات المتحدة مواجهة تحديات الكوكبة؟

نشر فى : الأربعاء 6 يناير 2010 - 10:36 ص | آخر تحديث : الأربعاء 6 يناير 2010 - 10:36 ص

 قد يبدو التساؤل المطروح غريبا فى عالم استقر فيه الاعتقاد أن السيد المسود فى عصر العولمة الذى نعيشه هو الولايات المتحدة، وأن الأمركة والعولمة صنوان لا يفترقان.

قد يكون من الصحيح أن الولايات المتحدة قد مارست من التصرفات ما يجعل العولمة تتبع مسارات من اختيارها، واتخذت كل ما بيدها من قوى وإمكانات لتسد الطريق أمام مسارات بديلة تتصاعد بها صيحات تعلو حينا لتخفت بعد ذلك مستسلمة لما يبدو ألا مفر منه.

إلا أن هذا لا يعنى أن العولمة قد تبلورت معالمها بصورة قابلة للاستمرار فى المستقبل المنظور بالمواصفات التى تبدت لنا منها حتى الآن.. ولا يعنى أن الاختيار الأمريكى سيظل فرضا تمليه القدرات التى استولت عليها الولايات المتحدة، وأن غياب قوة أو قوى موازية لها فى القدرة سيطلق لها الحبل على الغارب، لتحقق مكاسب على طول الخط. بل إنه لا يعنى أن الخيارات الأمريكية، رغم أنها بنيت على دراسات متعددة الجوانب ومتعمقة الجذور، سوف تؤمّن للولايات المتحدة مكاسب على طول الخط.

بل إننى أزعم أن الوضع الحالى الذى وجدت فيه الولايات المتحدة نفسها فيه على قمة نظام عالمى مستجد، هو محصلة عوامل أسهمت بنفسها فى صنع بعضها، وعمدت إلى تطويع البعض الآخر لصالحها، ولو على حساب الخروج عن المسار الذى كانت تمليه عليه ظروفها، وهو ما أدى إلى فجوات بدأت تتسع لتخرج شيئا فشيئا عن سيطرتها.

ومرجع ذلك إلى أن الكوكبة التى تمخضت عن العولمة بالصورة التى تتبدى لنا، هى ظاهرة موضوعية ستظل بعض الوقت فى طور التكوين.

وإذا صح ما ذهبنا إليه فى المقال السابق من انتهاء مقولة نهاية التاريخ التى تذرعت بها الولايات المتحدة لتملى اختياراتها على العالم، فإن المرحلة المقبلة ستشهد بدايات تاريخ جديد يصنع مستقبلا مازالت معالمه طوع إرادات البشر جميعا.

وبحكم أن الكوكبة تشمل كوكب الأرض بأكمله فإنها بالضرورة تتجاوز الحدود الوطنية لأى قطر أو تجمع إقليمى أيا كانت حدوده.

وإذا كان هذا قد عزز أسباب الوجود الأمريكى خارج حدود نصف الكرة الغربى، فإنه فى نفس الوقت قد أضعف الخاصية التى بنت عليها الولايات المتحدة دولتها الاتحادية التى قامت على استئصال شعوب نظمت حياتها فى عزلة عن باقى العالم، لتحل محلها تدفقات بشرية ضعفت صلاتها بأوطانها الأم، وجذبتها وفرة الموارد الطبيعية التى تزخر بها القارة الأمريكية، بدءا بمكتشفيها الذين التمسوا العتق من أحكام تلقوها جراء جرائم اقترفوها،

أو ضاقت أمامهم أبواب الرزق فى مواطنهم، واتفقوا على أن ينصرف كل منهم لنشاط يدر عليه دخلا تعذرت فرص الحصول على مثله فى مكان آخر. ورغم أن الشعار المرفوع كان: «عيش ودع غيرك يعيش» فإن النزعة العنصرية دفعت إلى تبنى نظرة انعزالية ابتعدوا من خلالها عن مشكلات العالم، خاصة «القارة العجوز» التى تعود إليها أصول الكثيرين منهم، وما دار على أراضيها من حروب طاحنة، كان أبشعها الحربين العالميتين اللتين شهدهما النصف الأول للقرن العشرين. واكتفوا فى توسيع منشآتهم الاقتصادية بأسواق أمريكا اللاتينية التى عجزت عن التخلص مما فرضوه عليها من آليات التبعية، لتكون ساحة خلفية لممارسة قواعد شركاتها الدولية النشاط.

غير أن التردد بشأن سياسة العزلة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، زال بفضل التطور فى تقنيات الاتصال الذى غذته مشاركتها فى الحرب العالمية الثانية، وبفعل التخوف من امتداد المعسكر الاشتراكى خارج نطاق الستار الحديدى الذى كان مفروضا على الاتحاد السوفييتى.

وعمدت إلى نشر فروع شركاتها دولية النشاط فى مختلف بقاع العالم، لتصبح عابرة للقوميات، وما يتبع ذلك من الهيمنة على تحرك الأموال عبر الحدود القطرية، فى ظل تحرير تام للتجارة مقترنا بحماية مشددة للملكية الفكرية، تلاها مطالبة بتحرير حركة رءوس الأموال متسترة بدعاوى منافع الاستثمار الأجنبى المباشر، ثم بتحرير تجارة الخدمات ليستمد مواطنوها منها دخولا إضافية بمنافسة غير متكافئة مع أبناء الدول الأخرى، دون أن يتجشموا عبء الانتقال.

وسخرت فى ذلك المؤسسات الاقتصادية الدولية، بعد ضم منظمة التجارة العالمية إليها، لإحداث ما يطلق عليه إصلاحات اقتصادية، بدعوى تصويب مسار التنمية فى العالم الثالث، وتحويل ما انفرط من العالم الثانى من الاشتراكية إلى الرأسمالية.

وبعد أن كان الشعار فى السياسة الخارجية هو «نشر الليبرالية والمسيحية» أضيف بعد ثالث هو «نشر الديموقراطية». وجرى الربط بين المناداة بإعلاء شأن الفرد فى كل من المجال الاقتصادى تحت ستار الليبرالية، والمجال السياسى بدعوى الديمقراطية باعتبارها كفيلة بحماية حقوق الإنسان. والواقع أن المقصود كان هو إضعاف قدرات الحكومات الأخرى فى الإشراف على شؤونها الاقتصادية، واستغلال حافز الربح الشخصى فى تمكين منشآت الاقتصاد الأمريكى من بسط نفوذها خارج حدوده.

غير أن هذا اقتضى تحمل أعباء أجهزة تتولى حماية المصالح الأمريكية الخارجية. ففى الاستعمار المباشر كان الوجود العسكرى والتسلط السياسى يسبقان الاستغلال الاقتصادى، الذى يغطى تكاليفهما إضافة لما يمد به الاقتصاد الإمبريالى من موارد وأسواق. أما فى هذا الاستعمار الجديد فإن البداية تكون من خلال علاقات اقتصادية تتجاوز الحدود المألوفة، الأمر الذى يتطلب تدخلا سافرا، سياسيا وعسكريا ومخابراتيا، يتطلب نفقات باهظة تتحملها ميزانية الدولة المستعمِرة، فضلا عن تشويهها للعلاقات السياسية،

وهما الأمران اللذان اتضح للولايات المتحدة عدم إمكانية الاستمرار فيها للبقاء على قمة العولمة. وقد لجأت الولايات المتحدة إلى أمرين لمواجهة هذه الأعباء خلال العقد الأخير: التلاعب فى القطاع المصرفى لتوليد موارد إضافية ولكنها وهمية، وهو ما انتهى بكارثة أحاقت بالعالم كله، والاعتماد على عجز متزايد للميزانية، مولته من خلال سندات حكومية تشتريها الدول ذات الفائض وفى مقدمتها الصين لأغراض الاحتياطيات الأجنبية، وصناديق الاستثمار وبخاصة صناديق التحوط، وهو ما دعا لبذل جهود جبارة لضمان استمرار الدولار عملة الاحتياط الرئيسية، تماشت معها الدول الأخرى تفاديا لخسائر فادحة.

ولا ندرى ماذا ستفعل الولايات المتحدة فى ديونها التى تضاعفت إلى أكثر من مثليها منذ 2001 بفعل حربى العراق وأفغانستان وتخفيضات الضرائب والركود الذى أدى لتراجع إيرادات الضرائب وارتفاع الإنفاق على شبكة الضمان الاجتماعى، لتنضم إلى الدول الأفريقية التى بح صوتها فى المطالبة بمعالجة ديونها.

لقد انقلب السحر على الساحر: فالآليات التى ابتدعتها الولايات المتحدة لتسيير العولمة على هواها، أصبحت متاحة لغيرها. ومطالبتها بنظم ديمقراطية لتحسين الحوكمة القطرية يقابلها ديمقراطية ــ ما زالت مفتقدة ــ على المستوى العالمى تحقيقا لحوكمة كوكبية، والبداية لجنة العشرين، وما يمكن أن تدخله من ضوابط لتقويم أسواق المال.

ولم يعد فى الإمكان احتكار الخدمات بعد أن أسهم تطور الاتصالات فى انتشار المعرفة واستيعاب أقل الدول النمو لقدر منها يضعها من خلال خدمات التعهيد على الخريطة العالمية، ويكفى النظر لما فعلته الهند فى هذا المجال. وضاعت هباء موارد الولايات المتحدة التى خصصت لمكافحة الجرائم العالمية المنظمة: الإرهاب والمخدرات وغسيل الأموال.

بل إن اليابان التى ظلت تعتبر معجزة آسيوية لعدة عقود، بدأت تراجع دفاترها، بعد أن قطعت الصين شوطا بعيدا فى التقدم وضمت إليها مجموعة الآسيان فى منطقة حرة (كبرى بالفعل وليس بالاسم كنظيرتها العربية) لتصبح أكبر تجمع إقليمى فى العالم. يبقى السؤال الذى يواجه المجتمع العالمى: ما هو مصير المنظمات الدولية: الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة والاقتصادية عندما يتم انتشالها من قبضة الولايات المتحدة؟

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات