المُطَمْئن والغير - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 11:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المُطَمْئن والغير

نشر فى : الخميس 6 يناير 2011 - 12:06 م | آخر تحديث : الخميس 6 يناير 2011 - 12:07 م

 كان الحدث شنيعا، وكان أفضل ما وُصف به هو أنه «زلزال» كما صوَّبت وأصابت منى الشاذلى، زلزال بموجة ارتجاجية مركزها فى قلب مدينة وصفها ابنها الصديق والكاتب الكبير ابراهيم عبدالمجيد وهو يرثيها فى «اليوم السابع» بأنها «مدينة الدنيا» التى انقلب بياضها إلى سواد بملابسات الجوائح المتخلفة والمتطرفة التى استبقت انفجار الدقائق الأولى من يوم 1/1/11.

كارثة قومية خلَّفت أنقاضا وضحايا وفجيعة وألما وكان طبيعيا أن يعقب الصدمة الكبرى صراخ، ليس فقط بفعل فجيعة المكلومين بفقد ذويهم ومعارفهم، بل صراخ أطلق ما كان مكبوتا فى الصدور من شعور بالقهر والحصار النفسى والتمييز الذى هو فى جوهره اجتماعى أكثر بكثير من كونه رسميا، لأن التمييز الرسمى تمارسه الدولة على كل بنيها، مسلمين وأقباطا، ما داموا خارج دائرة الحكم وحزب الحكم.

زلزال له توابع من هزات ارتدادية أبعد غورا وأطول عمرا حتى من زلازل الطبيعة، زلزال تصورت أنه سيستنفر أداء استثنائيا يجعلنا نؤرخ بما قبل 1 /1 /11 وما بعد 1 /1/11، وإذا كان ما قبل يتطلب الرجوع إليه والتدقيق فى ثناياه لمعرفة مقدمات ما حدث، فإن ما بعد قد بدأ وراح يتبدَّى للعيان مع ارتفاع شمس 1 /1 /11 وما تلاه من أيام، وكان هناك من المُنتظَر ما يطمئن، كما كان هناك ما لايطمئن.

المطمئن كان أداء الناس العاديين فى حياتهم العادية، ولا أعنى أبدا هذه الوقفات والتظاهرات والهتافات بحياة الهلال مع الصليب، فهذه كلها وإن كانت طيبة النوايا ونبيلة الهمم، إلا أنها فى حاجة إلى تقييم مختلف تستوجبه زاوية نظر جديدة ينبغى أن نتزود بها بعد 1 /1 /11.

كان الناس العاديون رائعين لا بهتافاتهم ولا تظاهراتهم بل بصمتهم البليغ وملامح الحزن التى رانت على الوجوه، شىء ما كأنه نوع من الأسى والأسف والاعتذار عما حدث برغم أنهم لم يرتكبوه قطعا، وكانت الترجمة الأوضح لهذا كله هى التقدير الجميل من عموم الناس الذين قرروا أن يحتملوا حتى تجاوزات الغضب الجانح ممن فتك الإرهاب بذويهم، ولم يكن الشيخ أحمد الطيب وهو ينضم إلى عموم الناس فى احتمال تجاوز وقع فى حقه، إلا مصريا عاديا مسلما حقيقيا صادقا جميلا فى قلبه وضميره وحسه، وشيخا من طراز نبيل مستنير طالما انتظرناه لأكبر مؤسسة إسلامية فى هذا الكوكب.

فى ظلال هذا الصمت البليغ والصبر الجميل الشاسع، اختفت الوجوه المتشنجة والحناجر الفظة لرموز التطرف، ربما للخوف من قبضة الأمن التى توقعوا أن تكون ثقيلة ولا ترحم فى وقت كهذا، ولكن أكثر لأنهم بالفعل قلة وإن تكن عالية الصوت جهيرة العدوانية جهولة الإقصاء والتكفير. وبمصاحبة هذا الكمون فى جحور التطرف، كان ملفتا أيضا خفوت الأبواق التى كانت نفير حروب الشحن الطائفى فيما قبل 1 /1 /11، وإن كان الكمون والخفوت ليس مما يطمئن كثيرا، لأن الحياة فى عرف هؤلاء الإقصائيين كما الحرب، وحيث كل الناس خارج عصاباتهم أعداء، فالحياة لديهم كما الحرب: خدعة!
كان هناك إذن بعض ما يطمئن، وكان هناك أيضا ما لا يطمئن، ممن تصورنا أن الكارثة سترتقى بأدائهم، ففى اليوم التالى مباشرة لوقوع زلزال 1 /1 /11، تداخل الأستاذ أسامة سرايا عبر الهاتف فى برنامج من برامج الفضائيات المسائية، وراح يتكلم عما حدث، وفجأة غلب عليه الطبع وربما التطبُّع، وإذ به يحاول إلصاق تفجير كنيسة الإسكندرية بحزب الله، هكذا بلا مناسبة، بينما كانت جهات البحث والتحقيق قد التزمت الصمت إلى حين الإمساك بحقائق صلبة، وفى وقت صار فيه القاصى والدانى يعرف بأمر التصريحات الفاجرة التى أدلى بها الجنرال «عاموس يادلين» المنتهية ولايته لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فى حفل تسليمه مهام منصبه لخلفه الجنرال «آفيف كوخى».

يادلين عاموس قال: «لقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية فى أكثر من موقع ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما لتعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية». وإضافة لتصريحات جنرال الاستخبارات الإسرائيلى هذا، كانت هناك اعترافات لجاسوس الموساد طارق عبدالرازق حسن أكد فيها اهتمام إسرائيل بتأجيج الفتنة الطائفية فى مصر. وليس بعيدا عن هذا وذاك، كان هناك تهديد تنظيم القاعدة فى العراق بتنفيذ عمليات إرهابية ضد الكنائس فى مصر على غرار ما نفذه هذا التنظيم المريب بتفجير كنيسة النجاة فى حى الكرادة ببغداد.

وجه الغرابة فى فلتة لسان أسامة سرايا أو تفليتته الفضائية، أنه فيما كان يستخف بعقول سامعيه ومتابعيه، إنما كان يعلن عن خفته نفسها التى لا يمكن أن تُحتَمل فى مثل هذه الظروف، فبغض النظر عن الموقف من حزب الله، والخصومة البادية بين سرايا ومن لفَّ لفَّهُم وهذا الحزب المُقاوِم، وبغض النظر عن رفضى الفكرى لكل نشاط سياسى تحت أى مظلة دينية، إلَّا أن البداهة المهنية والتقصيِّ من المفترض أن يتحلى بهما كل صحفى، فما بالك برئيس تحرير جريدة كالأهرام، كان يوجب على السيد سرايا أن يتحكم فى اندفاعاته السابقة وجاهزة التعليب، فى ظل ما كان ماثلا بالفعل من مؤشرات على جهات أولى بظنون الاتهام كإسرائيل والقاعدة وخلايا التطرف النائمة والهائمة من التكفيريين الذين لا يمتُّ حزب الله إليهم بصلة.

بعد لمسة الخفة تلك، جاء دور الثقل، فقد وقعت مشادة بين الدكتور فتحى سرور رئيس مجلس الشعب والنائب الدكتور جمال أسعد عندما كان الأخير يتحدث أمام الاجتماع المشترك للجنة الأمن القومى واللجنة الدينية، وقال جمال أسعد «إن العملية التى تعرضت لها كنيسة القديسين بالاسكندرية استهدفت الأقباط بالدرجة الأولى والدليل على ذلك هو اختيار مكان وزمان التفجير ولا يجب أن نغفل فى ذلك تهديدات القاعدة»، عندئذ قاطعه فتحى سرور قائلا: «لا تصطاد فى الماء العكر. فالماء عكر ولا يحتاج لتعكير» ورد جمال أسعد قائلا «إن للأقباط مشاكل فى مصر ويجب أن يكون ما حدث سببا فى انطلاقة نحو الطريق الصحيح لحل مشاكل الأقباط باعتبارها مشاكل سياسية وليست طائفية». فهل فى ذلك شىء يشى بالاصطياد فى الماء العكر؟

المعروف أن الدكتور جمال أسعد اختاره رئيس الجمهورية ضمن نِصاب الأعضاء العشرة الذين يحق للرئيس اختيارهم لعضوية مجلس الشعب، والرجل من خلال كتاباته ومشاركاته الإعلامية هو أبعد ما يكون عن الطائفية والتعصب. فعندما يقف من هذا شأنه ليتكلم عما حدث كعمل إرهابى على أرضية طائفية، يكون أحرى برئيس مجلس الشعب ألا يتهمه بأنه «يصطاد فى الماء العكر»، لأن الرجل كان يقرر حقيقة بديهية، فالجُرم إرهابى بشناعة، ومشوب بتحريضات خارجية واضحة، وقد وقع على خلفية من الاحتقان الطائفى لا شك فيها وربما يكون تغذَّى منها. أما الماء العكر فهو مما يحرص على وجوده من لا يريدون أن يروا إلا ما اعتادوا على الزعم بأنهم يرونه!

رجل يقود مجلس الشعب المصرى ويمكن أن يكون رئيسا لمصر فى لحظة استثنائية لا قدّر الله، كيف لا يرى أو لا يريد أن يرى وضوح الاحتقان الطائفى فى مصر؟ وهل يجوز أن يكون هذا هو موقف رجل القانون والعدالة الواقفة والمسئول الأول عن التشريع والذى ينبغى أن تكون بين يدى مجلسه حزمة قوانين تحول دون الشحن الطائفى وتحمى حقوق المواطنة؟ وماذا تُراه يسمى جريمة نجع حمادى التى لم يمر عليها أكثر من عام؟ وجريمة كنيسة القديسين هذه نفسها عام 2006، والمظاهرات والاعتصامات المُتجاوزة للطرفين الطائفيين من متعصبين مسلمين ومتعصبين أقباط، فى المنيا وفى الكاتدرائية بالعباسية من جهة، ومن الجهة الأخرى أمام مسجدى الفتح والنور فى القاهرة والقائد إبراهيم فى الإسكندرية!
لقد قال قائل من مذيعى الفضائيات، إن الكلام عن الطائفية لا يصح الآن، لأنه بمثابة صب الزيت على النار، وهذا ليس صحيحا، فالصدق هو الذى يمكن أن يطفئ النار، وما الإنكار إلا إذكاء لها لأنه لا يُطمئن غاضبا ولا يواسى مكلوما أو يُبرئ جريحا ولا يهدهد صدر مرتاب أو خائف، فهو لا يعد إلا بدوران دوائر الشر على أعقابها، وتكرار اللعب على وتر النسيان الذى يُلهى حينا، فيما يتيح لنار الطائفية والفتنة تحت الرماد أن تستمر وتتأجج متحينة فرصة الاندلاع والانتشار والعربدة.

ضوء الحقيقة لن يحرق مصر بل سينير دروب خلاصها، أما دخان تمويه وتتويه الحقائق جريا على المعروف والمألوف لدى البعض، كما التعامى عن الرؤية تستيفا للأوراق ولفلفة للقضايا ودفنا للمواجع والقعود على قبورها لدى البعض الآخر، فهذه كلها مما يُسهِّل لمشعلى الفتنة أداء أدوارهم الشيطانية، كما يشوِّش على المحققين المصريين خرائط سعيهم للوصول إلى المجرمين القتلة.

مصر الصابرة والمخذولة فى كثير من متنفذيها غير الأكفاء سواء بالخفة أو التيبُّس، مصر المخطوفة بأيادى الفساد من كل نوع، ومنه فساد الفكر التكفيرى والإقصائى والطائفى المتعصب، مصر الطيبة بحقيقة أغلبيتها التى بدت جميلة الصمت نبيلة الأحزان. مصر هذه بعد 1 /1 /11 صارت أحوج ما تكون لنبذ ما يُقلق، وتعظيم ما يطمئن، ليس فى الراهن فقط، بل فى القادم أيضا!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .